فصل: فَصْلٌ (في مَدْخَلِ السُّنَّةِ فِي فَهْمِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ ‏[‏الْقُرْآنُ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ‏]‏

الْقُرْآنُ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَالْعَالِمُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَعُوزُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ‏:‏ مِنْهَا النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ، مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 89‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 38‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 9‏]‏ يَعْنِي‏:‏ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكْمُلْ فِيهِ جَمِيعُ مَعَانِيهَا؛ لَمَا صَحَّ إِطْلَاقُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً‏.‏

وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُدًى وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَا يَكُونُ شِفَاءً لِجَمِيعِ مَا فِي الصُّدُورِ إِلَّا وَفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْمُؤْذِنَةِ بِذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةً لِمَنْ تَبِعَهُ، لَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ» إِلَخْ؛ فَكَوْنُهُ حَبْلَ اللَّهِ بِإِطْلَاقٍ، وَالشِّفَاءَ النَّافِعَ إِلَى تَمَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الْأَمْرِ فِيهِ وَنَحْوِ هَذَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ كُلَّ مُؤَدِّبٍ يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى أَدَبُهُ، وَإِنَّ أَدَبَ اللَّهِ الْقُرْآنُ‏.‏

وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ‏:‏ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَصَدَّقَ ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الْقَلَم‏:‏ 4‏]‏ وَعَنْ قَتَادَةَ‏:‏ مَا جَالَسَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا فَارَقَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 82‏]‏ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 193‏]‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الْقُرْآنُ، لَيْسَ كُلُّهُمْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «يَؤُمُّ النَّاسَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ»، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ؛ فَالْعَالِمُ بِالْقُرْآنِ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ‏.‏

وَعَنْ عَائِشَةَ‏:‏ أَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ‏.‏

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ إِذَا أَرَدْتُمُ الْعِلْمَ؛ فَأَثِيرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ؛ فَقَدْ حَمَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ‏:‏ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَقَدِ اضْطَّرَبَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ جَامِعٌ لِمَعَانِي النُّبُوَّةِ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

‌وَمِنْهَا‏:‏ التَّجْرِبَةُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَجَأَ إِلَى الْقُرْآنِ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا وَجَدَ لَهَا فِيهِ أَصْلًا، وَأَقْرَبُ الطَّوَائِفِ مِنْ إِعْوَازِ الْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ أَهْلُ الظَّوَاهِرِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقِيَاسَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ الدَّلِيلِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمِ الظَّاهِرِيّ‏:‏ كُلُّ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَيْسَ مِنْهَا بَابٌ إِلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، نَعْلَمُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، حَاشَ الْقِرَاضَ؛ فَمَا وَجَدْنَا لَهُ أَصْلًا فِيهِمَا أَلْبَتَّةَ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْقِرَاضَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ، وَأَصْلُ الْإِجَارَةِ فِي الْقُرْآنِ ثَابِتٌ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ بِهِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْقَوَاعِدِ غَيْرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ فِي السُّنَّةِ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرَى مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ‏:‏ لَا أَدْرَى، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ»، وَهَذَا ذَمٌّ وَمَعْنَاهُ اعْتِمَادُ السُّنَّةِ أَيْضًا وَيُصَحِّحُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ‏:‏ الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ؛ فَالرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 36‏]‏ وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ السُّنَّةَ يُؤْخَذُ بِهَا عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ لِكِتَابِ اللَّهِ لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 44‏]‏ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ إِنْ كَانَتِ السُّنَّةُ بَيَانًا لِلْكِتَابِ؛ فَفِي أَحَدِ قِسْمَيْهَا، فَالْقِسْمُ الْآخَرُ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ‏.‏

وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ‏:‏ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ؛ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَصَّلَتْ‏.‏

وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الدَّلِيلِ الثَّانِي، وَهُوَ السُّنَّةُ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَمِنْ نَوَادِرِ الِاسْتِدْلَالِ الْقُرْآنِيِّ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ انْتِزَاعًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 15‏]‏ مَعَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ‏}‏ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 14‏]‏ وَاسْتِنْبَاطُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْحَشْر‏:‏ 10‏]‏ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ الْوَلَدُ لَا يَمْلِكُ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 26‏]‏ وَقَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيّ‏:‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَقَةً لَا يُسَمَّى إِنْسَانًا مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏الْعَلَق‏:‏ 2‏]‏ وَاسْتِدْلَالُ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّ غَيْرُ مَطْبُوعٍ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ بُقُولِهِ ‏{‏وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 78‏]‏ وَأَغْرَبُ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ ابْنِ الْفَخَّارِ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَاءَ بِالرِّءُوسِ إِلَى جَانِبٍ عِنْدَ الْإِبَايَةِ، وَالْإِيمَاءَ بِهَا سُفْلًا عِنْدَ الْإِجَابَةِ أَوْلَى مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمَشَارِقَةُ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ الصُّوفِيُّ إِذَا لَبِسَ شَيْئًا خَرَقَ فِيهِ مَوْضِعًا؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ‏:‏ أَيْنَ فِي الْعِلْمِ إِفْسَادُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ‏؟‏ فَقَالَ ‏{‏فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 33‏]‏ ثُمَّ قَالَ الشِّبْلِيُّ‏:‏ أَيْنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَبِيبَ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ‏؟‏ فَسَكَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَقَالَ لَهُ‏:‏ قُلْ‏:‏ قَالَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى مَنْعِ سَمَاعِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 143‏]‏ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ نَظَرٌ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏كُلُّ مَسْأَلَةٍ يُرَادُ تَحْصِيلُ عِلْمِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى أَصْلِهَا فِي الْقُرْآنِ‏]‏

وَعَلَى هَذَا لَابُدَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ يُرَادُ تَحْصِيلُ عِلْمِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى أَصْلِهَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنْ وُجِدَتْ مَنْصُوصًا عَلَى عَيْنِهَا أَوْ ذُكِرَ نَوْعُهَا أَوْ جِنْسُهَا؛ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَمَرَاتِبُ النَّظَرِ فِيهَا مُتَعَدِّدَةٌ، لَعَلَّهَا تُذْكَرُ بَعْدُ فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ قَبْلَ هَذَا أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ فَإِمَّا مَقْطُوعٌ بِهِ، أَوْ رَاجِعٌ إِلَى مَقْطُوعٍ بِهِ، وَأَعْلَى مَرَاجِعِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ فَهُوَ أَوَّلُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَدْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا الْعَمَلُ خَاصَّةً، فَيَكْفِي الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى السُّنَّةِ الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ، كَمَا يَكْفِي الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ أَضْعَفُ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى أَصْلِهَا فِي الْكِتَابِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى ذَلِكَ فِي جَعْلِهَا أَصْلًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، أَوْ دِينًا يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ تَلَقِّيهَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏أَقْسَامُ الْعُلُومِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْقُرْآنِ‏]‏

الْعُلُومُ الْمُضَافَةُ إِلَى الْقُرْآنِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَقْسَامٍ‏:‏ قِسْمٌ هُوَ كَالْأَدَاةِ لِفَهْمِهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمُعِينِ عَلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ؛ كَعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا وَعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَقَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا نَظَرَ فِيهِ هُنَا‏.‏

وَلَكِنْ قَدْ يُدَّعَى فِيمَا لَيْسَ بِوَسِيلَةٍ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مَطْلُوبٌ كَطَلَبِ مَا هُوَ وَسِيلَةٌ بِالْحَقِيقَةِ؛ فَإِنَّ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ عِلْمَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَعِلْمَ الْأَسْبَابِ، وَعِلْمَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَعِلْمَ الْقِرَاءَاتِ، وَعِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ، مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا مُعِينَةٌ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَعُدُّهُ بَعْضُ النَّاسِ وَسِيلَةً أَيْضًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حِكَايَةِ الرَّازِيِّ فِي جَعْلِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَسِيلَةً إِلَى فَهْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏ وَزَعَمَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَكِيمُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِفَصْلِ الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنَ الِاتِّصَالِ أَنَّ عُلُومَ الْفَلْسَفَةِ مَطْلُوبَةٌ؛ إِذْ لَا يُفْهَمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِهَا، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ إِنَّ الْأَمْرَ بِالضِّدِّ مِمَّا قَالَ لَمَا بَعُدَ فِي الْمُعَارَضَةِ‏.‏

وَشَاهِدُ مَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي تِلْكَ الْعُلُومِ، هَلْ كَانُوا آخِذِينَ فِيهَا، أَمْ كَانُوا تَارِكِينَ لَهَا أَوْ غَافِلِينَ عَنْهَا‏؟‏ مَعَ الْقَطْعِ بِتَحَقُّقِهِمْ بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، يَشْهَدُ لَهُمْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ؛ فَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ أَيْنَ يَضَعُ قَدَمَهُ وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخَرُ يَعْرِفُهَا مَنْ زَاوَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَلَا يُنْبِئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ؛ فَأَبُو حَامِدٍ مِمَّنْ قَتَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ خِبْرَةً، وَصَرَّحَ فِيهَا بِالْبَيَانِ الشَّافِي فِي مَوَاضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ‏.‏

وَقَسْمٌ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جُمْلَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ خِطَابٌ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ هُوَ، وَذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ؛ إِذْ لَمْ تَنُصَّ آيَاتُهُ وَسُوَرُهُ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ نَصِّهَا عَلَى الْأَحْكَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْجِيزِ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ شَيْءٍ، وَلَا سُورَةٍ دُونَ سُورَةٍ، وَلَا نَمَطٍ مِنْهُ دُونَ آخَرَ، بَلْ مَاهِيَّتُهُ هِيَ الْمُعْجِزَةُ لَهُ، حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ فَهُوَ بِهَيْئَتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا دَالٌّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِيهَا عَجَزَ الْفُصَحَاءُ اللُّسُنُ، وَالْخُصَمَاءُ اللُّدُّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُمَاثِلُهُ أَوْ يُدَانِيهِ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ مُعْجِزًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ كَيْفَمَا تُصَوِّرَ الْإِعْجَازُ بِهِ؛ فَمَاهِيَّتُهُ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِلَى أَيِّ نَحْوٍ مِنْهُ مِلْتَ دَلَّكَ ذَلِكَ عَلَى صَدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا لَا نَظَرَ فِيهِ هُنَا، وَمَوْضِعُهُ كُتُبُ الْكَلَامِ وَقِسْمٌ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِنْزَالِهِ، وَخِطَابِ الْخَلْقِ بِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالْحُسْنَى مِنْ جَعْلِهِ عَرَبِيًّا يَدْخُلُ تَحْتَ نَيْلِ أَفْهَامِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ الْمُنَزَّهُ الْقَدِيمُ، وَكَوْنُهُ تَنَزَّلَ لَهُمْ بِالتَّقْرِيبِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعْلِيمِ فِي نَفْسِ الْمُعَامَلَةِ بِهِ، قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى مَا حَوَاهُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْخَيْرَاتِ، وَهَذَا نَظَرٌ خَارِجٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعُلُومِ، وَيَتَبَيَّنُ صِحَّةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ أَصْلُ التَّخَلُّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ‏.‏

وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَوَائِدِ الْفَرْعِيَّةِ، وَالْمَحَاسِنِ الْأَدَبِيَّةِ؛ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أَمْثِلَةً يُسْتَعَانُ بِهَا فِي فَهْمِ الْمُرَاد‏:‏ فَمِنْ ذَلِكَ‏:‏ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ قَبْلَ الْإِنْذَارِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 15‏]‏ فَجَرَتْ عَادَتُهُ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، فَإِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 29‏]‏ وَلِكُلٍّ جَزَاءُ مِثْلِهِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ الْإِبْلَاغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَا خَاطَبَ بِهِ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بُرْهَانًا فِي نَفْسِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا فِيهِ، وَزَادَ عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا فِي بَعْضِهِ الْكِفَايَةُ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ تَرْكُ الْأَخْذِ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِالذَّنْبِ، وَالْحِلْمُ عَنْ تَعْجِيلِ الْمُعَانِدِينَ بِالْعَذَابِ، مَعَ تَمَادِيهِمْ عَلَى الْإِبَايَةِ وَالْجُحُودِ بَعْدَ وُضُوحِ الْبُرْهَانِ، وَإِنِ اسْتَعْجَلُوا بِهِ وَمِنْهَا‏:‏ تَحْسِينُ الْعِبَارَةِ بِالْكِنَايَةِ وَنَحْوِهَا فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى ذِكْرِ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ ذِكْرِهِ فِي عَادَتِنَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 43، وَالْمَائِدَةِ 6‏]‏ ‏{‏وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏التَّحْرِيم‏:‏ 12‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 75‏]‏ حَتَّى إِذَا وَضَحَ السَّبِيلُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ، وَحَضَرَ وَقْتُ التَّصْرِيحِ بِمَا يَنْبَغِي التَّصْرِيحُ بِهِ؛ فَلَابُدَّ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 53‏]‏ وَمِنْهَا‏:‏ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَالْجَرْيُ عَلَى مَجْرَى التَّثَبُّتِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي حَقِّنَا؛ فَلَقَدْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً؛ حَتَّى قَالَ الْكُفَّارُ‏:‏ ‏{‏لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً‏}‏ ‏[‏الْفَرْقَان‏:‏ 32‏]‏ فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ ‏[‏الْفَرْقَان‏:‏ 32‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 106‏]‏ وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كَانَ الْإِنْذَارُ يَتَرَادَفُ، وَالصِّرَاطُ يَسْتَوِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وُجْهَةٍ وَإِلَى كُلِّ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَحِينَ أَبَى مَنْ أَبَى الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ بُدِئُوا بِالتَّغْلِيظِ بِالدُّعَاءِ؛ فَشُرِعَ الْجِهَادُ لَكِنْ عَلَى تَدْرِيجٍ أَيْضًا، حِكْمَةً بَالِغَةً، وَتَرْتِيبًا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ الدِّينُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا، وَلَمْ يَبْقَ لِقَائِلٍ مَا يَقُولُ؛ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَيْهِ وَقَدْ بَانَتِ الْحُجَّةُ، وَوَضَحَتِ الْمَحَجَّةُ، وَاشْتَدَّ أُسُّ الدِّينِ، وَقَوِيَ عَضُدُهُ بِأَنْصَارِ اللَّهِ؛ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ كَيْفِيَّةُ تَأَدُّبِ الْعِبَادِ إِذَا قَصَدُوا بَابَ رَبِّ الْأَرْبَابِ بِالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ مَسَاقُ الْقُرْآنِ آدَابًا اسْتُقْرِئَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا بِالْعِبَارَةِ؛ فَقَدْ أَغْنَتْ إِشَارَةُ التَّقْرِيرِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْبِيرِ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ نِدَاءَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِـ ‏(‏يَا‏)‏ الْمُشِيرَةِ إِلَى بُعْدِ الْمُنَادِي لِأَنَّ صَاحِبَ النِّدَاءِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُدَانَاةِ الْعِبَادِ، مَوْصُوفٌ بِالتَّعَالِي عَنْهُمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ، فَإِذَا قَرَّرَ نِدَاءَ الْعِبَادِ لِلرَّبِّ أَتَى بِأُمُورٍ تَسْتَدْعِي قُرْبَ الْإِجَابَة‏:‏ مِنْهَا‏:‏ إِسْقَاطُ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمُشِيرِ إِلَى قُرْبِ الْمُنَادَى، وَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَعَ الْمُنَادِيِ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْهُ؛ فَدَلَّ عَلَى اسْتِشْعَارِ الرَّاغِبِ هَذَا الْمَعْنَى؛ إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا رَبَّنَا رَبَّنَا كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 127‏]‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 260‏]‏ وَمِنْهَا‏:‏ كَثْرَةُ مَجِيءِ النِّدَاءِ بِاسْمِ الرَّبِّ الْمُقْتَضِي لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْعِبَادِ وَإِصْلَاحِهَا؛ فَكَانَ الْعَبْدُ مُتَعَلِّقًا بِمَنْ شَأْنُهُ التَّرْبِيَةُ وَالرِّفْقُ وَالْإِحْسَانُ، قَائِلًا‏:‏ يَا مَنْ هُوَ الْمُصْلِحُ لِشِئُونِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَتِمَّ لَنَا ذَلِكَ بِكَذَا، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا يَدْعُو بِهِ، وَإِنَّمَا أَتَى اللَّهُمَّ فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ، وَلَمَعَانٍ اقْتَضَتْهَا الْأَحْوَالُ وَمِنْهَا‏:‏ تَقْدِيمُ الْوَسِيلَةِ بَيْنَ يَدَيِ الطَّلَبِ؛ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْفَاتِحَة‏:‏ 5- 6‏]‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 53‏]‏ ‏{‏رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 191‏]‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا‏}‏ ‏[‏نُوحٍ‏:‏ 21- 28‏]‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 127‏]‏ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مُجَرَّدِ التَّقْرِيرِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالْأَفْعَالِ، وَالتَّخَلُقِ بِالصِّفَاتِ، تُضَافُ إِلَى مَا هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْهُ جُمْلَةٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ احْتَوَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَحَاسِنِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى كَثِيرٍ يَشْهَدُ بِهَا شَاهِدُ الِاعْتِبَارِ، وَيُصَحِّحُهَا نُصُوصُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ‏.‏

وَقِسْمٌ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِالذِّكْرِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَعَرَفُوهُ مَأْخُوذًا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا، عَلَى حَسَبِ مَا أَدَّاهُ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُحْتَوٍ مِنَ الْعُلُومِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ مَعْرِفَةُ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ سُبْحَانَهُ وَالثَّانِي‏:‏ مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالثَّالِثُ‏:‏ مَعْرِفَةُ مَآلِ الْعَبْدِ لِيَخَافَ اللَّهَ بِهِ وَيَرْجُوَهُ وَهَذِهِ الْأَجْنَاسُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ هُوَ الْمَقْصُودُ، عَبَّرَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذَّارِيَات‏:‏ 56‏]‏ فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ؛ إِذِ الْمَجْهُولُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَلَا يُقْصَدُ بِعِبَادَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا، فَإِذَا عُرِفَ- وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ أَنَّهُ آمِرٌ وَنَاهٍ وَطَالِبٌ لِلْعِبَادِ بِقِيَامِهِمْ بِحَقِّهِ تَوَجَّهَ الطَّلَبُ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى دُونَ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ التَّعَبُّدِ؛ فَجِيءَ بِالْجِنْسِ الثَّانِي وَلَمَّا كَانَتِ النُّفُوسُ مِنْ شَأْنِهَا طَلَبُ النَّتَائِجِ وَالْمَآلَاتِ، وَكَانَ مَآلُ الْأَعْمَالِ عَائِدًا عَلَى الْعَامِلِينَ، بِحَسَبِ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَانْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ التَّبْشِيرُ وَالْإِنْذَارُ فِي ذِكْرِهَا أَتَى بِالْجِنْسِ الثَّالِثِ مُوَضِّحًا لِهَذَا الطَّرَفِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ إِقَامَةٍ، وَإِنَّمَا الْإِقَامَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ عِلْمُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِي الصِّفَاتِ أَوْ فِي الْأَفْعَالِ النَّظَرُ فِي النُّبُوَّاتِ؛ لِأَنَّهَا الْوَسَائِطُ بَيْنَ الْمَعْبُودِ وَالْعِبَادِ، وَفِي كُلِّ أَصْلٍ ثَبَتَ لِلدِّينِ عِلْمِيًّا كَانَ أَوْ عَمَلِيًّا، وَيَتَكَمَّلُ بِتَقْرِيرِ الْبَرَاهِينِ، وَالْمُحَاجَّةِ لِمَنْ جَادَلَ خَصْمًا مِنَ الْمُبْطِلِينَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّعْرِيفِ بِأَنْوَاعِ التَّعَبُّدَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَمَا يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ، وَهِيَ أَنْوَاعُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَجَامِعُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالنَّظَرُ فِيمَنْ يَقُومُ بِهِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ يَدْخُلُ فِي ضِمْنِهِ النَّظَرُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ‏:‏ الْمَوْتِ وَمَا يَلِيهِ، وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَحْوِيهِ، وَالْمَنْزِلِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَمُكَمِّلُ هَذَا الْجِنْسِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، وَمِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنِ النَّاجِينَ وَالْهَالِكِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَمَا أَدَّاهُمْ إِلَيْهِ حَاصِلُ أَعْمَالِهِمْ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَلَخَّصَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعُلُومِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقُرْآنِ اثْنَا عَشَرَ عِلْمًا، وَقَدْ حَصَرَهَا الْغَزَالِيُّ فِي سِتَّةِ أَقْسَامٍ‏:‏ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا هِيَ السَّوَابِقُ وَالْأُصُولُ الْمُهِمَّةُ، وَثَلَاثَةٌ هِيَ تَوَابِعٌ وَمُتَمِّمَةٌ‏.‏

فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ؛ فَهِيَ تَعْرِيفُ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، وَهُوَ شَرْحُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَتَعْرِيفِ طَرِيقِ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ بِالتَّحْلِيَةِ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالتَّزْكِيَةِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَتَعْرِيفِ الْحَالِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ حَالَيِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ، وَمَا يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ؛ فَهِيَ تَعْرِيفُ أَحْوَالِ الْمُجِيبِينَ لِلدَّعْوَةِ، وَذَلِكَ قِصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَسِرُّهُ التَّرْغِيبُ، وَأَحْوَالِ النَّاكِبِينَ وَذَلِكَ قِصَصُ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَسِرُّهُ التَّرْهِيبُ، وَالتَّعْرِيفُ بِمُحَاجَّةِ الْكُفَّارِ بَعْدَ حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمُ الزَّائِغَةِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ بِمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَادِّكَارِ عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَسِرُّهُ فِي جَنَبَةِ الْبَاطِلِ التَّحْذِيرُ وَالْإِفْضَاحُ، وَفِي جَنَبَةِ الْحَقِّ التَّثْبِيتُ وَالْإِيضَاحُ وَالتَّعْرِيفُ بِعِمَارَةِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَكَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْأُهْبَةِ وَالزَّادِ، وَمَعْنَاهُ مَحْصُولُ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْجِنَايَاتِ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ تَتَشَعَّبُ إِلَى عَشْرَةٍ، وَهِيَ‏:‏ ذِكْرُ الذَّاتِ، وَالصِّفَاتِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْمَعَادِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ جَانِبُ التَّحْلِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، وَأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَعْدَاءِ، وَمُحَاجَّةِ الْكُفَّارِ، وَحُدُودِ الْأَحْكَامِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ‏:‏ ‏[‏الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ‏]‏

مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَرُبَّمَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ؛ فَعَنِ الْحَسَنِ مِمَّا أَرْسَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ بِمَعْنَى ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، وَكُلُّ حَرْفٍ حَدٌّ، وَكُلُّ حَدٍّ مَطْلَعٌ»‏.‏

وَفُسِّرَ بِأَنَّ الظَّهْرَ وَالظَّاهِرَ هُوَ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، وَالْبَاطِنَ هُوَ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ لِمُرَادِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ‏:‏ ‏{‏فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 78‏]‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ لَا يَفْهَمُونَ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ مِنَ الْخِطَابِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ نَفْسَ الْكَلَامِ، كَيْفَ وَهُوَ مُنَزَّلٌ بِلِسَانِهِمْ‏؟‏ وَلَكِنْ لَمْ يَحْظَوْا بِفَهْمِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ‏:‏ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الْحَدِيثَ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ لِلْحَدِيثِ؛ إِذْ قَالَ‏:‏ الظَّهْرُ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ هُوَ السِّرُّ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 82‏]‏ فَظَاهِرُ الْمَعْنَى شَيْءٌ، وَهُمْ عَارِفُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ وَالْمُرَادُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا حَصَلَ التَّدَبُّرُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ أَلْبَتَّةَ؛ فَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ يُفْهَمُ الِاتِّفَاقُ وَيَنْزَاحُ الِاخْتِلَافُ هُوَ الْبَاطِنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَلَمَّا قَالُوا فِي الْحَسَنَة‏:‏ ‏{‏هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 78‏]‏ وَفِي السَّيِّئَة‏:‏ هَذَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ، بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، وَلَكِنْ بَيَّنَ الْوَجْهَ الَّذِي يُتَنَزَّلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 24‏]‏ فَالتَّدَبُّرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنِ الْتَفَتَ إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ؛ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ تَدَبُّرٌ، قَالَ بَعْضُهُمُ الْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ يَكُونُ بِرِوَايَةٍ فَلَيْسَ يُعْتَبَرُ فِيهَا إِلَّا النَّقْلُ وَالْآخَرُ‏:‏ يَقَعُ بِفَهْمٍ فَلَيْسَ يَكُونُ إِلَّا بِلِسَانٍ مِنَ الْحَقِّ إِظْهَارُ حِكْمَةٍ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ وَهَذَا الْكَلَامُ يُشِيرُ إِلَى مَعْنَى كَلَامِ عَلِيٍّ‏.‏

وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْمَفْهُومُ الْعَرَبِيُّ، وَالْبَاطِنُ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلَامِهِ وَخِطَابِهِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُ مَنْ أَطْلَقَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مَا فُسِّرَ؛ فَصَحِيحٌ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ إِثْبَاتُ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَلَابُدَّ مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُثْبِتُ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهَا أَصْلٌ يُحْكَمُ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ، فَلَا يَكُونُ ظَنِّيًّا، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ إِنَّمَا غَايَتُهُ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ أَنْ يَنْتَظِمَ فِي سِلْكِ الْمَرَاسِيلِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَلْنَرْجِعْ إِلَى بَيَانِهِمَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَلَهُ أَمْثِلَةٌ تُبَيِّنُ مَعْنَاهُ بِإِطْلَاقٍ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ‏:‏ أَتَدْخِلُهُ وَلَنَا بَنُونَ مِثْلُهُ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذِهِ الْآيَة‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ ‏[‏النَّصْر‏:‏ 1‏]‏ فَقُلْتُ‏:‏ إِنَّمَا هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وَقَرَأَ السُّورَةَ إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ، فَظَاهِرُ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَبِّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَهُ اللَّهُ وَفَتَحَ عَلَيْهِ، وَبَاطِنُهَا أَنَّ اللَّهَ نَعَى إِلَيْهِ نَفْسَهُ‏.‏

وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏ فَرِحَ الصَّحَابَةُ وَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ‏:‏ مَا بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا النُّقْصَانُ مُسْتَشْعِرًا نَعْيَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَمَا عَاشَ بَعْدَهَا إِلَّا إِحْدَى وَثَمَانِينَ يَوْمًا، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 41‏]‏ قَالَ الْكُفَّارُ‏:‏ مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ‏؟‏ مَا هَذَا الْإِلَهُ؛ فَنَزَلَ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 26‏]‏ فَأَخَذُوا بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْمُرَادِ فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 26‏]‏ وَيُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ نَظَرُ الْكُفَّارِ لِلدُّنْيَا، وَاعْتِدَادُهُمْ مِنْهَا بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَظِلٌّ زَائِلٌ، وَتَرْكُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْهَا، وَهُوَ كَوْنُهَا مَجَازًا وَمَعْبَرًا لَا مَحَلَّ سُكْنَى، وَهَذَا هُوَ بَاطِنُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْسِيرِ‏.‏

وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ ‏[‏الْمُدَّثِّر‏:‏ 30‏]‏ نَظَرَ الْكُفَّارُ إِلَى ظَاهِرِ الْعَدَدِ؛ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ فِيمَا رُوِيَ لَا يَعْجِزُ كُلُّ عَشْرَةِ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَاطِنَ الْأَمْرِ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا‏}‏ ‏[‏الْمُدَّثِّر‏:‏ 31‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ‏}‏ ‏[‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 8‏]‏ فَنَظَرُوا إِلَى ظَاهِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الْمُنَافِقُونَ‏:‏ 8‏]‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 6‏]‏ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ هُدًى لِلنَّاسِ وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ، نَاظَرَهُ الْكَافِرُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بِأَخْبَارِ فَارِسَ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَبِالْغِنَاءِ فَهَذَا هُوَ عَدَمُ الِاعْتِبَارِ لِبَاطِنِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ‏:‏ ‏{‏لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْحَشْر‏:‏ 13‏]‏، وَهَذَا عَدَمُ فِقْهٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ مُصَرِّفُ الْأُمُورِ؛ فَهُوَ الْفَقِيهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏[‏الْحَشْر‏:‏ 13‏]‏ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 127‏]‏ لِأَنَّهُمْ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ‏:‏ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ‏؟‏ ثُمَّ انْصَرَفُوا فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا نَفَى الْفِقْهَ أَوِ الْعِلْمَ عَنْ قَوْمٍ؛ فَذَلِكَ لِوُقُوفِهِمْ مَعَ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ لِلْمُرَادِ مِنْهُ، وَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ لِفَهْمِهِمْ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ خِطَابِهِ، وَهُوَ بَاطِنُهُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْمَعَانِي الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي لَا يَنْبَنِي فَهْمُ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَيْهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الظَّاهِرِ‏]‏

فَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي لَا يَنْبَنِي فَهْمُ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَيْهَا؛ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الظَّاهِرِ‏.‏

فَالْمَسَائِلُ الْبَيَانِيَّةُ وَالْمَنَازِعُ الْبَلَاغِيَّةُ لَا مَعْدِلَ بِهَا عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ ضَيِّقٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 125‏]‏ وَبَيْنَ ضَائِقٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 12‏]‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّدَاءِ بِـ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أَوْ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ وَبَيْنَ النِّدَاءِ بِـ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ‏}‏ أَوْ بِـ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ‏}‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 6‏]‏ وَالْعَطْفِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ‏}‏ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 6‏]‏ وَكِلَاهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِهِ أَيْضًا فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 154‏]‏ وَبَيْنَ الْآيَةِ الْأُخْرَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 186‏]‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّفْعِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏قَالَ سَلَامٌ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 69‏]‏ وَالنَّصْبِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏قَالُوا سَلَامًا‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 069‏]‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ فِي التَّذَكُّرِ مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 201‏]‏ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْإِبْصَارِ مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 201‏]‏ أَوْ فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ إِذَا وَإِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 131‏]‏ وَبَيْنَ جَاءَتْهُمْ وَتُصِبْهُمْ بِالْمَاضِي مَعَ إِذَا وَالْمُسْتَقْبَلِ مَعَ إِنْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 36‏]‏ مَعَ إِتْيَانِهِ بِقَوْلِه‏:‏ فَرِحُوا بَعْدَ إِذَا وَيَقْنَطُونَ بَعْدَ إِنْ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْبَيَانِ، فَإِذَا حَصَلَ فَهْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ فَقَدْ حَصَلَ فَهْمُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ‏.‏

وَمِنْ هُنَا حَصَلَ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِعْجَازَهُ بِالْفَصَاحَةِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 13‏]‏ وَهُوَ لَائِقٌ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ بِالْفَصَاحَةِ لَا بِغَيْرِهَا؛ إِذْ لَمْ يُؤْتَوْا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا مِنْ بَابِ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِثْلَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّهُمْ دُعُوا وَقُلُوبُهُمْ لَاهِيَةٌ عَنْ مَعْنَاهُ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ إِنْزَالِهِ، فَإِذَا عَرَفُوا عَجْزَهُمْ عَنْهُ؛ عَرَفُوا صِدْقَ الْآتِي بِهِ وَحَصَلَ الْإِذْعَانُ وَهُوَ بَابُ التَّوْفِيقِ وَالْفَهْمِ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْمُخَاطَبِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَذَلِكَ هُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ وَالْمَقْصُودُ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهِ‏.‏

وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالشَّوَاهِدِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 245‏]‏ قَالَ أَبُو الدَّحْدَاح‏:‏ إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ اسْتَقْرَضَ مِنَّا مَا أَعْطَانَا هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ وَقَالَتِ الْيَهُودُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 181‏]‏ فَفَهْمُ أَبِي الدَّحْدَاحِ هُوَ الْفِقْهُ، وَهُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ، وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «قَالَ أَبُو الدَّحْدَاح‏:‏ يَسْتَقْرِضُنَا وَهُوَ غَنِيٌّ‏؟‏ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ نَعَمْ لِيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ»، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ، وَفَهْمُ الْيَهُودِ لَمْ يَزِدْ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَوْلِ الْعَرَبِيِّ الظَّاهِرِ، ثُمَّ حَمَلَ اسْتِقْرَاضَ الرَّبِّ الْغَنِيِّ عَلَى اسْتِقْرَاضِ الْعَبْدِ الْفَقِيرِ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورَ بِهَا بَلِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ كُلَّهَا إِنَّمَا طُلِبَ بِهَا الْعَبْدُ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 78‏]‏ وَفِي الْأُخْرَى‏:‏ ‏{‏قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏السَّجْدَة‏:‏ 9‏]‏ وَالشُّكْرُ ضِدُّ الْكُفْرِ؛ فَالْإِيمَانُ وَفُرُوعُهُ هُوَ الشُّكْرُ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُكَلَّفُ تَحْتَ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ بِهَذَا الْقَصْدِ؛ فَهُوَ الَّذِي فَهِمَ الْمُرَادَ مِنَ الْخِطَابِ، وَحَصَّلَ بَاطِنَهُ عَلَى التَّمَامِ، وَإِنْ هُوَ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى عِصْمَةِ مَالِهِ وَدَمِهِ فَقَطْ؛ فَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَوَاقِفٌ مَعَ ظَاهِرِ الْخِطَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 5‏]‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 5‏]‏ فَالْمُنَافِقُ إِنَّمَا فَهِمَ مُجَرَّدَ ظَاهِرِ الْأَمْرِ مِنْ أَنَّ الدُّخُولَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مُوجِبٌ لِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ فَعَمِلُوا عَلَى الْإِحْرَازِ مِنْ عَوَادِي الدُّنْيَا، وَتَرَكُوا الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تُشْعِرُ بِإِلْزَامِ الشُّكْرِ بِالْخُضُوعِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِهِ؛ فَمَنْ دَخَلَهَا عَرِيًّا مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ يُعَدُّ مِمَّنْ فَهِمَ بَاطِنَ الْقُرْآنِ‏؟‏ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ؛ فَوَجَبَ عَلَيْهِ شُكْرُ النِّعْمَةِ بِبَذْلِ الْيَسِيرِ مِنَ الْكَثِيرِ، عَوْدًا عَلَيْهِ بِالْمَزِيدِ؛ فَوَهَبَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنْ أَدَائِهَا لَا قَصْدَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ، كَيْفَ يَكُونُ شَاكِرًا لِلنِّعْمَةِ‏؟‏ وَكَذَلِكَ مَنْ يُضَارُّ الزَّوْجَةَ لِتَنْفَكَّ لَهُ مِنَ الْمَهْرِ عَلَى غَيْرِ طِيبِ النَّفْسِ لَا يُعَدُ عَامِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 229‏]‏ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 4‏]‏ وَتَجْرِي هَاهُنَا مَسَائِلُ الْحِيَلِ أَمْثِلَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ فَهِمَ بَاطِنَ مَا خُوطِبَ بِهِ لَمْ يَحْتَلْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ حَتَّى يَنَالَ مِنْهَا بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، وَمَنْ وَقَفَ مَعَ مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ؛ اقْتَحَمَ هَذِهِ الْمَتَاهَاتِ الْبَعِيدَةَ‏.‏

وَكَذَلِكَ تَجْرِي مَسَائِلُ الْمُبْتَدَعَةِ أَمْثِلَةً أَيْضًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ؛ كَمَا قَالَ الْخَوَارِجُ لِعَلِيٍّ‏:‏ إِنَّهُ حَكَّمَ الْخَلْقَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 57، وَيُوسُفَ‏:‏ 40، 67‏]‏ وَقَالُوا‏:‏ إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَهُوَ إِذًا أَمِيرُ الْكَافِرِينَ وَقَالُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ لَا تُنَاظِرُوهُ؛ فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏الزُّخْرُف‏:‏ 58‏]‏ وَكَمَا زَعَمَ أَهْلُ التَّشْبِيهِ فِي صِفَةِ الْبَارِي حِينَ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الْقَمَر‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 71‏]‏ ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 67‏]‏ وَحَكَّمُوا مُقْتَضَاهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ؛ فَأَسْرَفُوا مَا شَاءُوا فَلَوْ نَظَرَ الْخَوَارِجُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَّمَ الْخَلْقَ فِي دِينِهِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 95‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 35‏]‏ لَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 57‏]‏ غَيْرُ مُنَافٍ لِمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ حُكْمِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ يَرْجِعُ بِهِ الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلُهُ مِمَّا فَعَلَهُ عَلِيٌّ‏.‏

وَلَوْ نَظَرُوا إِلَى مَحْوِ الِاسْمِ مِنْ أَمْرٍ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُ لِضِدِّهِ؛ لَمَّا قَالُوا‏:‏ إِنَّهُ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ، وَهَكَذَا الْمُشَبِّهَةُ لَوْ حَقَّقَتْ مَعْنَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 11‏]‏ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَفَهِمُوا بَوَاطِنَهَا، وَأَنَّ الرَّبَّ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْمَخْلُوقِينَ‏.‏

وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ مَنْ زَاغَ وَمَالَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَبِمِقْدَارِ مَا فَاتَهُ مِنْ بَاطِنِ الْقُرْآنِ فَهْمًا وَعِلْمًا، وَكُلُّ مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ وَصَادَفَ الصَّوَابَ؛ فَعَلَى مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ فَهْمِ بَاطِنِهِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ‏:‏ ‏[‏كَوْنُ الظَّاهِرِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ هُوَ الْمَفْهُومُ الْعَرَبِيُّ مُجَرَّدًا لَا إِشْكَالَ فِيهِ‏]‏

كَوْنُ الظَّاهِرِ هُوَ الْمَفْهُومُ الْعَرَبِيُّ مُجَرَّدًا لَا إِشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُوَالِفَ وَالْمُخَالِفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 195‏]‏ وَقَالَ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 103‏]‏ ثُمَّ رَدَّ الْحِكَايَةَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 103‏]‏ وَهَذَا الرَّدُّ عَلَى شَرْطِ الْجَوَابِ فِي الْجَدَلِ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ بِلِسَانِهِمْ، وَالْبَشَرُ هُنَا حَبْرٌ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، أَوْ سَلْمَانُ، وَقَدْ كَانَ فَارِسِيًّا فَأَسْلَمَ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَنْ كَانَ لِسَانُهُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 44‏]‏ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ عَرَبِيٌّ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدَ كَانُوا فَهِمُوا مَعْنَى أَلْفَاظِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَرَبِيٌّ فَقَطْ وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهُ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي ظَاهِرِهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْجَرَيَانِ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ‏.‏

فَإِذًا كَلُّ مَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِ جَارٍ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ؛ فَلَيْسَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ، لَا مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْهُ، وَلَا مِمَا يُسْتَفَادُ بِهِ، وَمَنِ ادَّعَى فِيهِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي دَعْوَاهُ مُبْطِلٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ مَا ادَّعَاهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ مِنْ أَنَّهُ مُسَمًّى فِي الْقُرْآنِ كَبَيَانِ بْنِ سَمْعَانَ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 138‏]‏ وَهُوَ مِنَ التُّرَّهَاتِ بِمَكَانٍ مَكِينٍ، وَالسُّكُوتُ عَلَى الْجَهْلِ كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا الِافْتِرَاءِ الْبَارِدِ، وَلَوْ جَرَى لَهُ عَلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لَعَدَّهُ الْحَمْقَى مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ كَشَفَ عَوَارَ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، عَافَانَا اللَّهُ وَحَفِظَ عَلَيْنَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ بِمَنِّهِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ بَيَانٌ فِي الْآيَةِ عَلَمًا لَهُ؛ فَأَيُّ مَعْنًى لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 138‏]‏ كَمَا يُقَالُ‏:‏ هَذَا زَيْدٌ لِلنَّاسِ، وَمِثْلُهُ فِي الْفُحْشِ مَنْ تَسَمَّى بِالْكِسْفِ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الطَّوْر‏:‏ 44‏]‏ فَأَيُّ مَعْنًى يَكُونُ لِلْآيَةِ عَلَى زَعْمِهِ الْفَاسِدِ‏؟‏ كَمَا تَقُولُ‏:‏ وَإِنْ يَرَوْا رَجُلًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا‏:‏ سَحَابٌ مَرْكُومٌ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَبَيَانُ بْنُ سَمْعَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْبَيَانِيَّةُ مِنَ الْفِرَقِ، وَهُوَ فِيمَا زَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَالْكِسْفُ هُوَ أَبُو مَنْصُورٍ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَنْصُورِيَّةُ‏.‏

وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ الشِّيعِيَّ الْمُسَمَّى بِالْمَهْدِيَّ حِينَ مَلَكَ إِفْرِيقِيَّةَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا؛ كَانَ لَهُ صَاحِبَانِ مِنْ كُتَامَةَ يَنْتَصِرُ بِهِمَا عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى بِنَصْرِ اللَّهِ، وَالْآخُرُ بِالْفَتْحِ؛ فَكَانَ يَقُولُ لَهُمَا‏:‏ أَنْتُمَا اللَّذَانِ ذَكَرَكُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ ‏[‏النَّصْر‏:‏ 1‏]‏ قَالُوا وَقَدْ كَانَ عَمِلَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَبَدَّلَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 110‏]‏ بِقَوْلِه‏:‏ كُتَامَةُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَمَنْ كَانَ فِي عَقْلِهِ لَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَسَمِّيَيْنِ بِنَصْرِ اللَّهِ وَالْفَتْحِ الْمَذْكُورَيْنِ إِنَّمَا وُجِدَا بَعْدَ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى‏:‏ إِذَا مُتَّ يَا مُحَمَّدُ ثُمَّ خُلِقَ هَذَانِ ‏{‏وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النَّصْر‏:‏ 2‏]‏ فَأَيُّ تَنَاقُضٍ وَرَاءَ هَذَا الْإِفْكِ الَّذِي افْتَرَاهُ الشِّيعِيُّ قَاتَلَهُ اللَّهُ‏؟‏‏.‏

وَمِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ مَنِ ادَّعَى جَوَازَ نِكَاحِ الرَّجُلِ مِنَّا تِسْعَ نِسْوَةٍ حَرَائِرَ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 3‏]‏ وَلَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا مَنْ فَهِمَ وَضْعَ الْعَرَبِ فِي مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ حَلَالًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏ فَلَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا غَيْرَ لَحْمِهِ، وَلَفْظُ اللَّحْمِ يَتَنَاوَلُ الشَّحْمَ وَغَيْرَهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْكُرْسِيَّ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 255‏]‏ بِالْعِلْمِ مُسْتَدِلِّينَ بِبَيْتٍ لَا يُعْرَفُ وَهُوَ‏:‏

وَلَا يُكَرْسِئُ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقُ ***

كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ‏:‏ وَلَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ، وَيُكَرْسِئُ مَهْمُوزٌ، وَالْكُرْسِيُّ غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ غَوَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 121‏]‏ أَنَّهُ تَخِمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ غَوِيَ الْفَصِيلُ يَغْوِي غَوًى إِذَا بَشِمَ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ غَوِيَ الْفَصِيلُ فِعْلٌ وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 179‏]‏ أَيْ أَلْقَيْنَا فِيهَا كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَوْلِ النَّاس‏:‏ ذَرَتْهُ الرِّيحُ وَذَرَأَ مَهْمُوزٌ وَذَرَا غَيْرُ مَهْمُوزٍ وَفِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 125‏]‏ أَيْ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِهِ، مِنَ الْخَلَّةِ بِفَتْحِ الْخَاءِ مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ‏:‏

وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ***

قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ‏:‏ أَيُّ فَضِيلَةٍ لِإِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا الْقَوْلِ‏؟‏ أَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ فُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ‏؟‏ وَهَلْ إِبْرَاهِيمُ فِي لَفْظِ خَلِيلِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا قِيلَ‏:‏

مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ‏؟‏ وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ‏:‏ «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ»، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ هُمُ النَّابِذُونَ لِلْمَنْقُولَاتِ اتِّبَاعًا لِلرَّأْيِ، وَقَدْ أَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ بِمَا لَا يَشْهَدُ لِلَفْظِهِ عَرَبِيٌّ وَلَا لِمَعْنَاهُ بِرِهَانٌ كَمَا رَأَيْتَ، وَإِنَّمَا أَكْثَرْتُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ مَقْصُودِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى مَا عَلِمْتَ لِتَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِمَّا هُوَ مِثْلُهَا أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏شُرُوطُ الْبَاطِنِ الْمُرَادِ مِنَ الْخِطَابِ‏]‏

وَكَوْنُ الْبَاطِنِ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْخِطَابِ قَدْ ظَهَرَ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطَان‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَصِحَّ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْمُقَرَّرِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَيَجْرِي عَلَى الْمَقَاصِدِ الْعَرَبِيَّةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَاهِدٌ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا فِي مَحَلٍّ آخَرَ يَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَظَاهِرٌ مِنْ قَاعِدَةٍ لِكَوْنِ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فَهْمٌ لَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْعَرَبِ؛ لَمْ يُوصَفْ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا بِإِطْلَاقٍ، وَلِأَنَّهُ مَفْهُومٌ يُلْصَقُ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ فِي أَلْفَاظِهِ وَلَا فِي مَعَانِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ أَصْلًا؛ إِذْ لَيْسَتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ ضِدِّهِ إِلَيْهِ، وَلَا مُرَجِّحَ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ وَتَقَوُّلٌ عَلَى الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُ قَائِلُهُ تَحْتَ إِثْمِ مَنْ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ جَارِيَةٌ هُنَا‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ فِي مَحَلٍّ آخَرَ أَوْ كَانَ لَهُ مُعَارِضٌ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ الدَّعَاوَى الَّتِي تُدَّعَى عَلَى الْقُرْآنِ، وَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ‏.‏

وَبِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْبَاطِنُ؛ لِأَنَّهُمَا مُوَفَّرَانِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا فَسَّرَ بِهِ الْبَاطِنِيَّةُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ الْبَاطِنِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ الظَّاهِرِ؛ فَقَدْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ‏}‏ ‏[‏النَّمْل‏:‏ 16‏]‏ إِنَّهُ الْإِمَامُ وَرِثَ النَّبِيَّ عِلْمَهُ، وَقَالُوا فِي الْجَنَابَة‏:‏ إِنَّ مَعْنَاهَا مُبَادَرَةُ الْمُسْتَجِيبِ بِإِفْشَاءِ السِّرِّ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنَالَ رُتْبَةَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَعْنَى الْغُسْلِ تَجْدِيدُ الْعَهْدِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى الطَّهُورِ هُوَ التَّبَرِّي وَالتَّنَظُّفُ مِنِ اعْتِقَادِ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَالتَّيَمُّمُ الْأَخْذُ مِنَ الْمَأْذُونِ إِلَى أَنْ يُشَاهَدَ الدَّاعِي أَوِ الْإِمَامُ، وَالصِّيَامُ الْإِمْسَاكُ عَنْ كَشْفِ السِّرِّ، وَالْكَعْبَةُ النَّبِيُّ، وَالْبَابُ عَلِيٌّ، وَالصَّفَا هُوَ النَّبِيُّ، وَالْمَرْوَةُ عَلِيٌّ، وَالتَّلْبِيَةُ إِجَابَةُ الدَّاعِي، وَالطَّوَّافُ سَبْعًا هُوَ الطَّوَافُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى تَمَامِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ أَدِلَّةٌ عَلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَعَلَى الْإِمَامِ، وَنَارُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ غَضَبُ نَمْرُودَ لَا النَّارُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَذَبْحُ إِسْحَاقَ هُوَ أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَيْهِ، وَعَصَا مُوسَى حُجَّتُهُ الَّتِي تَلَقَّفَتْ شُبَهَ السَّحَرَةِ، وَانْفِلَاقُ الْبَحْرِ افْتِرَاقُ عِلْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِمْ، وَالْبَحْرُ هُوَ الْعَالِمُ، وَتَظْلِيلُ الْغَمَامِ نَصْبُ مُوسَى الْإِمَامَ لِإِرْشَادِهِمْ، وَالْمَنُّ عِلْمٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالسَّلْوَى دَاعٍ مِنَ الدُّعَاةِ، وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ سُؤَالَاتُ مُوسَى وَإِلْزَمَاتُهُ الَّتِي تَسَلَّطَتْ عَلَيْهِمْ، وَتَسْبِيحُ الْجِبَالِ رِجَالٌ شِدَادٌ فِي الدِّينِ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ مَلَكَهُمْ سُلَيْمَانُ بَاطِنِيَّةُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَالشَّيَاطِينُ هُمُ الظَّاهِرِيَّةُ الَّذِينَ كُلِّفُوا الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، إِلَى سَائِرِ مَا نُقِلَ مِنْ خُبَاطِهِمُ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْخَبَالِ، وَضِحْكَةُ السَّامِعِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنِ الْخِذْلَانِ قَالَ الْقُتْبِيُّ‏:‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ يَقُولُ‏:‏ مَا أُشَبِّهُ تَفْسِيرَ الرَّوَافِضِ لِلْقُرْآنِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِلشِّعْرِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ مَا سَمِعْتُ بِأَكْذَبَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِل‏:‏

بَيْتٌ زُرَارَةُ مُحْتَبٍ بِفَنَائِهِ *** وَمُجَاشِعٌ وَأَبُو الْفَوَارِسِ نَهْشَلُ

إِنَّهُ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ قِيلَ لَهُ‏:‏ فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهِ‏؟‏ قَالَ الْبَيْتُ بَيْتُ اللَّهِ، وَزُرَارَةُ الْحِجْرُ قِيلَ‏:‏ فَمُجَاشِعٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ زَمْزَمُ جَشَعَتْ بِالْمَاءِ قِيلَ‏:‏ فَأَبُو الْفَوَارِسِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبُو قُبَيْسٍ قِيلَ فَنَهْشَلٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَهْشَلٌ أَشَدُّهُ وَصَمَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ‏:‏ نَعَمْ نَهْشَلٌ مِصْبَاحُ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهُ طَوِيلٌ أَسْوَدُ، فَذَلِكَ نَهْشَلٌ انْتَهَى مَا حَكَاهُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏تَفَاسِيرُ مُشْكِلَةٌ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِنِ الصَّحِيحِ أَوِ الْفَاسِدِ‏]‏

وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ تَفَاسِيرُ مُشْكِلَةٌ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْبَاطِنِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ لِأُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ مِنْهَا إِلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ‏.‏

فَمِنْ ذَلِكَ فَوَاتِحُ السُّوَرِ نَحْوَ ‏{‏الم‏}‏ وَ‏{‏المص‏}‏ وَ‏{‏حم‏}‏ وَنَحْوِهَا فُسِّرَتْ بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا مَا يَظْهَرُ جَرَيَانُهُ عَلَى مَفْهُومٍ صَحِيحٍ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيَنْقُلُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الم أَنَّ ‏(‏أَلِفٌ‏)‏ اللَّهُ، وَ ‏(‏لَامٌ‏)‏ جِبْرِيلُ، وَمِيمٌ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا إِنْ صَحَّ فِي النَّقْلِ؛ فَمُشْكِلٌ لِأَنَّ هَذَا النَّمَطَ مِنَ التَّصَرُّفِ لَمْ يَثْبُتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هَكَذَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أَتَى مِثْلُهُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ أَوِ الْحَالِيُّ؛ كَمَا قَالَ‏:‏

قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافِ ***

وَقَالَ‏:‏

قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ بِلَافَا ***

وَقَالَ‏:‏

وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا ***

وَالْقَوْلُ فِي ‏{‏الم‏}‏ لَيْسَ هَكَذَا، وَأَيْضًا؛ فَلَا دَلِيلَ مِنْ خَارِجٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ دَلِيلٌ لَاقْتَضَتِ الْعَادَةُ نَقْلَهُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لَوْ صَحَّ أَنَّهُ مِمَّا يُفَسَّرُ وَيُقْصَدُ تَفْهِيمُ مَعْنَاهُ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَإِنْ ثَبْتَ لَهُ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيرَ إِلَيْهِ‏.‏

وَقَدْ ذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِشَارَةُ إِلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ بِجِنْسِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّ هَذِهِ الْفَوَاتِحَ أَسْرَارٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَأَشَارَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَعْدَادُهَا تَنْبِيهًا عَلَى مُدَّةِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَفِي السِّيَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْهَدُ فِي اسْتِعْمَالِهَا الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ أَنْ تَدُلَّ بِهَا عَلَى أَعْدَادِهَا، وَرُبَّمَا لَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا لَهَا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ فِي الْيَهُودِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ السِّيَرِ

فَأَنْتَ تَرَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ مُشْكِلَةً إِذَا سَبَرْنَاهَا بِالْمِسْبَارِ الْمُتَقَدِّمِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَوَاتِحِ مِثْلُهَا فِي الْإِشْكَالِ وَأَعْظَمُ، وَمَعَ إِشْكَالِهَا؛ فَقَدِ اتَّخَذَهَا جَمْعٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ، بَلْ إِلَى الِاطِّلَاعِ وَالْكَشْفِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ، حُجَجًا فِي دَعَاوٍ ادَّعَوْهَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَرُبَّمَا نَسَبُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا أَصْلُ الْعُلُومِ وَمَنْبَعُ الْمُكَاشَفَاتِ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ الْعَرَبَ الْأُمِّيَّةَ الَّتِي لَا تَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ إِذَا سُلِّمَ أَنَّهُ مُرَادٌ فِي تِلْكَ الْفَوَاتِحِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ تَرْكِيبِهَا عَلَى وُجُوهٍ، وَضَرْبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَنِسْبَتِهَا إِلَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، وَإِلَى أَنَّهَا الْفَاعِلَةُ فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّهَا مُجْمَلُ كُلِّ مُفَصَّلٍ، وَعُنْصُرُ كُلِّ مَوْجُودٍ وَيُرَتِّبُونَ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبًا جَمِيعُهُ دَعَاوٍ مُحَالَةٌ عَلَى الْكَشْفِ وَالِاطِّلَاعِ وَدَعْوَى الْكَشْفِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى حَالٍ كَمَا أَنَّهُ لَا يُعَدُّ دَلِيلًا فِي غَيْرِهَا كَمَا سَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

فَصْلُ ‏[‏مَا نُقِلَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ أَشْيَاءُ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ بَاطِنِهِ‏]‏

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ أَشْيَاءُ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ بَاطِنِهِ؛ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 22‏]‏ أَيْ أَضْدَادًا قَالَ‏:‏ وَأَكْبَرُ الْأَنْدَادِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ الطَّوَّاعَةُ إِلَى حُظُوظِهَا وَمُنَاهَا بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الْأَنْدَادِ، حَتَّى لَوْ فَصَّلَ لَكَانَ الْمَعْنَى‏:‏ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لَا صَنَمًا وَلَا شَيْطَانًا وَلَا النَّفْسَ وَلَا كَذَا وَهَذَا مُشْكِلُ الظَّاهِرِ جِدًّا؛ إِذْ كَانَ مَسَاقُ الْآيَةِ وَمَحْصُولُ الْقَرَائِنِ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْدَادَ الْأَصْنَامُ أَوْ غَيْرُهَا مِمَّا كَانُّو يَعْبُدُونَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَتَّخِذُونَهَا أَرْبَابًا وَلَكِنْ لَهُ وَجْهٌ جَارٍ عَلَى الصِّحَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِنَّ هَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ، وَلَكِنْ أَتَى بِمَا هُوَ نِدٌّ فِي الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ مِنْ جِهَتَيْن‏:‏ إِحْدَاهُمَا‏:‏ أَنَّ النَّاظِرَ قَدْ يَأْخُذُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَعْنًى مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ؛ فَيُجْرِيهِ فِيمَا لَمْ تَنْزِلْ فِيهِ لِأَنَّهُ يُجَامِعُهُ فِي الْقَصْدِ أَوْ يُقَارِبُهُ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّدِّ أَنَّهُ الْمُضَادُّ لِنِدِّهِ الْجَارِي عَلَى مُنَاقَضَتِهِ، وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ هَذَا شَأْنُهَا؛ لِأَنَّهَا تَأْمُرُ صَاحِبَهَا بِمُرَاعَاةِ حُظُوظِهَا، لَاهِيَةً أَوْ صَادَّةً عَنْ مُرَاعَاةِ حُقُوقِ خَالِقِهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْنِي بِهِ النِّدَّ فِي نِدِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ نَصَبُوهَا لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ، وَشَاهِدُ صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 31‏]‏ وَهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُمُ ائْتَمَرُوا بِأَوَامِرِهِمْ وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَوْهُمْ عَنْهُ كَيْفَ كَانَ؛ فَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَرَّمُوهُ، وَمَا أَبَاحُوا لَهُمْ حَلَّلُوهُ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 31‏]‏ وَهَذَا شَأْنُ الْمُتَّبِعِ لِهَوَى نَفْسِهِ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْأَصْنَامِ؛ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِيهَا نَظَرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ تَوَسَّعَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَان‏:‏ أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 20‏]‏ وَكَانَ هُوَ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ بِهَا وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 20‏]‏ وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ التَّنْزِيلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 22‏]‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلُ ‏[‏بَعْضِ مَا نُقِلَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ أَشْيَاءُ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ بَاطِنِهِ‏]‏

وَمِنَ الْمَنْقُولِ عَنْ سَهْلٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 35‏]‏ قَالَ‏:‏ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ مَعْنَى الْأَكْلِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَعْنَى مُسَاكَنَةِ الْهِمَّةِ لِشَيْءٍ هُوَ غَيْرُهُ، أَيْ‏:‏ لَا تَهْتَمَّ بِشَيْءٍ هُوَ غَيْرِي قَالَ‏:‏ فَآدَمُ لَمْ يُعْصَمْ مِنَ الْهِمَّةِ وَالتَّدْبِيرِ فَلَحِقَهُ مَا لَحِقَهُ قَالَ‏:‏ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وَسَاكَنَ قَلْبَهُ نَاظِرًا إِلَى هَوَى نَفْسِهِ، لَحِقَهُ التَّرْكُ مِنَ اللَّهِ مَعَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ فَيَعْصِمَهُ مِنْ تَدْبِيرِهِ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَلَيْهَا قَالَ‏:‏ وَآدَمُ لَمْ يُعْصَمْ عَنْ مُسَاكَنَةِ قَلْبِهِ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ لِلْخُلُودِ لَمَّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الْبَلَاءَ فِي الْفَرْعِ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ سُكُونِ الْقَلْبِ إِلَى مَا وَسْوَسَتْ بِهِ نَفْسُهُ؛ فَغَلَبَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ بِسَابِقِ الْقَدَرِ إِلَى آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ‏.‏

وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ فِي الْآيَةِ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنْ نَفْسِ الْأَكْلِ لَا عَنْ سُكُونِ الْهِمَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَهُ وَجْهٌ يَجْرِي عَلَيْهِ لِمَنْ تَأَوَّلَ، فَإِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ الْقُرْبِ لَا غَيْرِهِ، وَلَمْ يَرِدِ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ تَصْرِيحًا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَبَيْنَ مَا فُسِّرَ بِهِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى نَفْسِ الْقُرْبِ مُجَرَّدًا إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ تَظْهَرُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ مَعْنًى فِي الْقُرْبِ، وَهُوَ إِمَّا التَّنَاوُلُ وَالْأَكْلُ، وَإِمَّا غَيْرُهُ وَهُوَ شَيْءٌ يَنْشَأُ الْأَكْلُ عَنْهُ، وَذَلِكَ مُسَاكَنَةُ الْهِمَّةِ؛ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ الْأَكْلِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ السُّكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ لِطَلَبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ؛ فَهَذَا التَّفْسِيرُ لَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَمْ يَقَعِ النَّهْيُ عَنْ مُجَرَّدِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْلٌ بَلْ عَمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ الْأَكْلُ مِنَ السُّكُونِ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ إِذْ لَوِ انْتَهَى لَكَانَ سَاكِنًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ وَسَكَنَ إِلَى أَمْرٍ فِي الشَّجَرَةِ غَرَّهُ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَذَلِكَ الْخُلْدُ الْمُدَّعَى؛ أَضَافَ اللَّهُ إِلَيْهِ لَفْظَ الْعِصْيَانِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 96‏]‏ بَاطِنُ الْبَيْتِ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْمِنُ بِهِ مَنْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ التَّوْحِيدَ وَاقْتَدَى بِهِدَايَتِهِ‏.‏

وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَلَا فِيهِ مِنْ جِهَتِهَا وَضْعٌ مَجَازِيٌّ مُنَاسِبٌ، وَلَا يُلَائِمُهُ مَسَاقٌ بِحَالٍ؛ فَكَيْفَ هَذَا‏؟‏ وَالْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ؛ فَزَالَ الْإِشْكَالُ إِذًا، وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَا بُدَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ بَيَانِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 51‏]‏ قَالَ رَأْسُ الطَّوَاغِيتِ كُلِّهَا النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِذَا خَلَى الْعَبْدُ مَعَهَا لِلْمَعْصِيَةِ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ فَعَلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 22‏]‏ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 36‏]‏ أَمَّا بَاطِنُهَا فَهُوَ الْقَلْبُ ‏{‏وَالْجَارِ الْجُنُبِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 36‏]‏‏:‏ النَّفْسُ الطَّبِيعِيُّ ‏{‏وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 36‏]‏ الْعَقْلُ الْمُقْتَدِي بِعَمَلِ الشَّرْعِ ‏{‏وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 36‏]‏ الْجَوَرِاحُ الْمُطِيعَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وَهُوَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُشْكِلَةِ فِي كَلَامِهِ، وَلِغَيْرِهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَارِيَ عَلَى مَفْهُومِ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْخِطَابِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ ابْتِدَاءً، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، لَا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَلَا مَنْ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ يُمَاثِلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَعْرُوفًا لَنُقِلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَى بِفَهْمِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَبَاطِنِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يَأْتِي آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا، وَلَا هُمْ أَعْرَفُ بِالشَّرِيعَةِ مِنْهُمْ، وَلَا أَيْضًا ثَمَّ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ، لَا مِنْ مَسَاقِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّهُ يُنَافِيهِ وَلَا مِنْ خَارِجٍ؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، بَلْ مِثْلُ هَذَا أَقْرَبُ إِلَى مَا ثَبَتَ رَدُّهُ وَنَفْيُهُ عَنِ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ‏}‏ ‏[‏النَّمْل‏:‏ 44‏]‏ الصَّرْحُ نَفْسُ الطَّبْعِ، وَالْمُمَرَّدُ الْهَوَى إِذَا كَانَ غَالِبًا سَتَرَ أَنْوَارَ الْهُدَى، بِالتَّرْكِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْعِصْمَةَ لِعَبْدِهِ‏.‏

وَفِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا‏}‏ ‏[‏النَّمْل‏:‏ 52‏]‏ أَيْ‏:‏ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ إِقَامَتِهِمْ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ مَنْهِيُّونَ، وَالْبُيُوتُ الْقُلُوبُ؛ فَمِنْهَا عَامِرَةٌ بِالذِّكْرِ، وَمِنْهَا خَرَابٌ بِالْغَفْلَةِ عَنِ الذِّكْرِ‏.‏

وَفِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 50‏]‏ قَالَ‏:‏ حَيَاةُ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 41‏]‏ مَثَّلَ اللَّهُ الْقَلْبَ بِالْبَحْرِ، وَالْجَوَارِحَ بِالْبَرِّ، وَمَثَّلَهُ أَيْضًا بِالْأَرْضِ الَّتِي تُزْهَى بِالنَّبَاتِ، هَذَا بَاطِنُهُ‏.‏

وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 114‏]‏ عَلَى أَنَّ الْمَسَاجِدَ الْقُلُوبُ تُمْنَعُ بِالْمَعَاصِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَنُقِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 12‏]‏ أَنَّ بَاطِنَ النَّعْلَيْنِ هُوَ الْكَوْنَان‏:‏ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ؛ فَذُكِرَ عَنِ الشِّبْلِيِّ أَنَّ مَعْنَى ‏{‏فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 12‏]‏ اخْلَعِ الْكُلَّ مِنْكَ تَصِلْ إِلَيْنَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَطَاءٍ‏:‏ ‏{‏فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ‏}‏ عَنِ الْكَوْنِ؛ فَلَا تَنْظُرْ إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الْخِطَابِ، وَقَالَ‏:‏ النَّعْلُ النَّفْسُ، وَالْوَادِي الْمُقَدَّسُ دِينُ الْمَرْءِ، أَيْ‏:‏ حَانَ وَقْتُ خُلُوِّكَ مِنْ نَفْسِكَ، وَالْقِيَامِ مَعَنَا بِدِينِكَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي النَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ خَارِجٌ عَمَّا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ، وَدَعْوَى مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي مُرَادِ اللَّهِ بِكَلَامِهِ، وَلَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ‏:‏ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ‏؟‏ وَفِي الْخَبَر‏:‏ «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ»‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ لِجَلَالَةِ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْفُضَلَاءِ، وَرُبَّمَا أَلَمَّ الْغَزَالِيُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَقَاصِدَ الْقَوْمِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ قَائِلَيْن‏:‏ مِنْهُمْ مَنْ يُصَدِّقُ بِهِ وَيَأْخُذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابِهِ، وَإِذَا عَارَضَهُ مَا يُنْقَلُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ؛ فَرُبَّمَا كَذَّبَ بِهِ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَرَى أَنَّهُ تَقَوُّلٌ وَبُهْتَانٌ، مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ، وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ فِيهِ مَيْلٌ عَنِ الْإِنْصَافِ، وَلَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي رَفْعِ الْإِشْكَالِ مِنْ تَقْدِيمِ أَصْلٍ مُسَلَّمٍ، يَتَبَيَّنُ بِهِ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ‏:‏ ‏[‏الِاعْتِبَارَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقُلُوبِ الظَّاهِرَةُ لِلْبَصَائِرِ‏]‏

فَنَقُولُ‏:‏ الِاعْتِبَارَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقُلُوبِ الظَّاهِرَةُ لِلْبَصَائِرِ، إِذَا صَحَّتْ عَلَى كَمَالِ شُرُوطِهَا؛ فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا يَكُونُ أَصْلُ انْفِجَارِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَتْبَعُهُ سَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ الصَّحِيحَ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ الَّذِي يَخْرِقُ نُورُ الْبَصِيرَةِ فِيهِ حُجُبَ الْأَكْوَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، فَإِنْ تَوَقَّفَ؛ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرُ كَامِلٍ، حَسْبَمَا بَيَّنَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ بِالسُّلُوكِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا يَكُونُ أَصْلُ انْفِجَارِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ جُزْئِيِّهَا أَوْ كُلِّيِّهَا وَيَتْبَعُهُ الِاعْتِبَارُ فِي الْقُرْآنِ‏.‏

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَذَلِكَ الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي فَهْمِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ لِأَنَّ فَهْمَ الْقُرْآنِ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ عَلَى وَفْقِ مَا نَزَلَ لَهُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ الْهِدَايَةُ التَّامَّةُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَبِحَسَبِ التَّكَالِيفِ وَأَحْوَالِهَا، لَا بِإِطْلَاقٍ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ؛ فَالْمَشْيُ عَلَى طَرِيقِهَا مَشْيٌ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ الْقُرْآنِيَّ قَلَّمَا يَجِدُهُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ عَمَلًا بِهِ عَلَى تَقْلِيدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ؛ فَلَا يَخْرُجُونَ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ فِيهِ عَنْ حُدُودِهِ، كَمَا لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْعَمَلِ بِهِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ عَنْ حُدُودِهِ، بَلْ تَنْفَتِحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْفَهْمِ فِيهِ عَلَى تَوَازِي أَحْكَامِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَدًّا بِهِ لِجَرَيَانِهِ عَلَى مَجَارِيهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى ذَلِكَ مَا نُقِلَ مِنْ فَهْمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ كُلَّهُ جَارٍ عَلَى مَا تَقْضِي بِهِ الْعَرَبِيَّةُ، وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ قَبْلُ‏.‏

وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَالتَّوَقُّفُ عَنِ اعْتِبَارِهِ فِي فَهْمِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ لَازِمٌ، وَأَخْذُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِيهِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِهِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ؛ فَنَقُولُ‏:‏ إِنَّ تِلْكَ الْأَنْظَارَ الْبَاطِنَةَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ جَرَيَانُهَا عَلَى مُقْتَضَى الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ غَيْرِ الْقُرْآنِيِّ وَهُوَ الْوُجُودِيُّ وَيَصِحُّ تَنْزِيلُهُ عَلَى مَعَانِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ وُجُودِيٌ أَيْضًا؛ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ غَيْرُ خَاصٍّ؛ فَلَا يُطَالِبُ فِيهِ الْمُعْتَبِرُ بِشَاهِدٍ مُوَافِقٍ إِلَّا مَا يُطَالِبُهُ بِهِ الْمُرَبِّي، وَهُوَ أَمْرٌ خَاصٌّ وَعِلْمٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَلِذَلِكَ يُوقَفُ عَلَى مَحَلِّهِ، فَكَوْنُ الْقَلْبِ جَارًا ذَا قُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ هُوَ النَّفَسُ الطَّبِيعِيَّ، إِلَى سَائِرِ مَا ذُكِرَ؛ يَصِحُّ تَنْزِيلُهُ اعْتِبَارِيًّا مُطْلَقًا، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْوُجُودِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي هَذَا النَّمَطِ صَحِيحٌ وَسَهْلٌ جِدًّا عِنْدَ أَرْبَابِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُغَرِّرٌ بِمَنْ لَيْسَ بِرَاسِخٍ أَوْ دَاخِلٍ تَحْتَ إِيَالَةِ رَاسِخٍ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ مَنْ ذُكِرَ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ الْمُخَاطَبُ بِهِ الْخَلْقُ بَلْ أَجْرَاهُ مَجْرَاهُ وَسَكَتَ عَنْ كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادَ، وَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَصَرَّحَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ؛ فَهُوَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الِاعْتِبَارِ الْقُرْآنِيِّ وَالْوُجُودِيِّ، وَأَكْثَرُ مَا يَطْرَأُ هَذَا لِمَنْ هُوَ بَعُدَ فِي السُّلُوكِ، سَائِرٌ عَلَى الطَّرِيقِ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِمَطْلُوبِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ يُثْبِتِ اعْتِبَارَ قَوْلِهِ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلِلْغَزَالِيِّ فِي مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ وَفِي كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَفِي كِتَابِ جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي الِاعْتِبَارِ الْقُرْآنِيِّ وَغَيْرِهِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ أَمْثِلَةٌ؛ فَتَأَمَّلْهَا هُنَاكَ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في مَدْخَلِ السُّنَّةِ فِي فَهْمِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ‏]‏

وَلِلسُّنَّةِ فِي هَذَا النَّمَطِ مَدْخَلٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الْمُتَقَدِّمِ الصَّحِيحِ الشَّوَاهِدِ، وَقَابِلٌ أَيْضًا لِلِاعْتِبَارِ الْوُجُودِيِّ؛ فَقَدْ فَرَضُوا نَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرَارِ إِذَا وَضَحَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْمَدَنِيُّ مِنَ السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا فِي الْفَهْمِ عَلَى الْمَكِّيِّ‏]‏

الْمَدَنِيُّ مِنَ السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا فِي الْفَهْمِ عَلَى الْمَكِّيِّ، وَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، وَالْمَدَنِيُّ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِ فِي التَّنْزِيلِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْخِطَابِ الْمَدَنِيِّ فِي الْغَالِبِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَكِّيِّ؛ كَمَا أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى مُتَقَدِّمِهِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِبَيَانٍ مُجْمَلٍ، أَوْ تَخْصِيصِ عُمُومٍ، أَوْ تَقْيِيدِ مُطْلَقٍ، أَوْ تَفْصِيلِ مَا لَمْ يَفَصَّلْ، أَوْ تَكْمِيلِ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَكْمِيلُهُ وَأَوَّلُ شَاهِدٍ عَلَى هَذَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهَا جَاءَتْ مُتَمِّمَةً لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمُصْلِحَةً لِمَا أُفْسِدَ قَبْلُ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَلِيهِ تَنْزِيلُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً لِقَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ خَرَّجَ الْعُلَمَاءُ مِنْهَا قَوَاعِدَ التَّوْحِيدِ الَّتِي صَنَّفَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَوَّلِ إِثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ إِلَى إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ هَذَا مَا قَالُوا‏.‏

وَإِذَا نَظَرْتَ بِالنَّظَرِ الْمَسُوقِ فِي هَذَا الْكِتَابِ؛ تَبَيَّنَ بِهِ مِنْ قُرْبٍ بَيَانُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ، الَّتِي إِذَا انْخَرَمَ مِنْهَا كُلِّيٌّ وَاحِدٌ انْخَرَمَ نِظَامُ الشَّرِيعَةِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ‏.‏

ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ الَّتِي قَرَّرَتْ قَوَاعِدَ التَّقْوَى الْمَبْنِيَّةَ عَلَى قَوَاعِدِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ؛ فَإِنَّهَا بَيَّنَتْ مِنْ أَقْسَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ جُمْلَتَهَا، وَإِنْ تَبَيَّنَ فِي غَيْرِهَا تَفَاصِيلُ لَهَا كَالْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ وَالْعَادَاتِ مِنْ أَصْلِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَغَيْرِهِمَا وَالْمُعَامَلَاتِ مِنَ الْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ وَمَا دَارَ بِهَا، وَالْجِنَايَاتِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّمَاءِ وَمَا يَلِيهَا‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ حِفْظَ الدِّينِ فِيهَا، وَحِفْظَ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسْلِ وَالْمَالِ مُضَمَّنٌ فِيهَا، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْمُقَرَّرِ فِيهَا؛ فَبِحُكْمِ التَّكْمِيلِ، فَغَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ غَيْرُ الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَكِّيِّ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهَا مَبْنِيًّا عَلَيْهَا، وَإِذَا تَنَزَّلْتَ إِلَى سَائِرِ السُّوَرِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ فِي التَّرْتِيبِ؛ وَجَدْتَهَا كَذَلِكَ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ؛ فَلَا يَغِيبَنَ عَنِ النَّاظِرِ فِي الْكِتَابِ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ عُلُومِ التَّفْسِيرِ، وَعَلَى حَسَبِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ تَحْصُلُ لَهُ الْمَعْرِفَةُ بِكَلَامِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏السُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ فَلَا تَقَعُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَّا عَلَى وَفْقِهِ‏]‏

وَلِلسُّنَّةِ هُنَا مَدْخَلٌ؛ لِأَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ؛ فَلَا تَقَعُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَّا عَلَى وَفْقِهِ، وَبِحَسَبِ الْمَعْرِفَةِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ يَحْصُلُ بَيَانُ النَّاسِخِ مِنَ الْمَنْسُوخِ فِي الْحَدِيثِ، كَمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا، وَيَقَعُ فِي الْأَحَادِيثِ أَشْيَاءُ تَقَرَّرَتْ قَبْلَ تَقْرِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ؛ فَتَأْتِي فِيهَا إِطْلَاقَاتٌ أَوْ عُمُومَاتٌ رُبَّمَا أَوْهَمَتْ، فَفُهِمَ مِنْهَا يُفْهَمُ مِنْهَا لَوْ وَرَدَتْ بَعْدَ تَقْرِيرِ تِلْكَ الْمَشْرُوعَاتِ؛ كَحَدِيث‏:‏ «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ»‏.‏

أَوْ حَدِيث‏:‏ «‏:‏ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ؛ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَقَعَ مِنْ أَجْلِهَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيمَنْ عَصَى اللَّهَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَتَيْنِ؛ فَذَهَبَتِ الْمُرْجِئَةُ إِلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الظَّوَاهِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَانَ مَا عَارَضَهَا مُئَوَّلًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الظَّوَاهِرَ‏.‏

وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ السَّلَفِ قَالُوا‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُنْزَلَةٌ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الْفَرَائِضُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يُصَلِّ أَوْ لَمْ يَصُمْ مَثَلًا وَفَعَلَ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدُ، فَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْ أَمْرِ إِسْلَامِهِ شَيْئًا، كَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ وَالْخَمْرُ فِي جَوْفِهِ قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 93‏]‏، وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي صِلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 143‏]‏ وَإِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، وَتَصْرِيحٌ بِأَنَّ اعْتِبَارَ التَّرْتِيبِ فِي النُّزُولِ مُفِيدٌ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ‏]‏

رُبَّمَا أُخِذَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ، بَلْ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ، وَبِهِ كَانُوا أَفْقَهَ النَّاسِ فِيهِ، وَأَعْلَمَ الْعُلَمَاءِ بِمَقَاصِدِهِ وَبَوَاطِنِهِ‏.‏

وَرُبَّمَا أُخِذَ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْخَارِجَيْنِ عَنِ الِاعْتِدَال‏:‏ إِمَّا عَلَى الْإِفْرَاطِ، وَإِمَّا عَلَى التَّفْرِيطِ، وَكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ فَالَّذِينَ أَخَذُوهُ عَلَى التَّفْرِيطِ قَصَّرُوا فِي فَهْمِ اللِّسَانِ الَّذِي بِهِ جَاءَ وَهُوَ الْعَرَبِيَّةُ فَمَا قَامُوا فِي تَفَهُّمِ مَعَانِيهِ وَلَا قَعَدُوا، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي اطِّرَاحِ التَّعْوِيلِ عَلَى هَؤُلَاءِ‏.‏

وَالَّذِينَ أَخَذُوهُ عَلَى الْإِفْرَاطِ أَيْضًا قَصَّرُوا فِي فَهْمِ مَعَانِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بَيَانُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ، وَأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا عِنْدَ الْعَرَبِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا، وَمَرَّ فِيهِ أَنَّهَا لَا تَقْصِدُ التَّدْقِيقَاتِ فِي كَلَامِهَا، وَلَا تُعْتَبَرُ أَلْفَاظُهَا كُلَّ الِاعْتِبَارِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا تُؤَدِّي الْمَعَانِيَ الْمُرَكَّبَةَ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مَقْصُودًا لَهَا؛ فَبِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَمِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مُعَيَّنٌ عَلَى إِدْارَكِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، كَالْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَرُبَّمَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى فِكْرٍ، فَإِنِ احْتَاجَ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى فِكْرٍ؛ خَرَجَ عَنْ نَمَطِ الْحُسْنِ إِلَى نَمَطِ الْقُبْحِ وَالتَّكَلُّفِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ حَائِلٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخِطَابِ، مِنَ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ ثُمَّ التَّعَبُّدِ بِمُقْتَضَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِعْذَارٌ وَإِنْذَارٌ، وَتَبْشِيرٌ وَتَحْذِيرٌ، وَرَدٌّ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَكَمْ بَيْنَ مَنْ فَهِمَ مَعْنَاهُ وَرَأَى أَنَّهُ مَقْصُودُ الْعِبَارَةِ فَدَاخَلَهُ مِنْ خَوْفِ الْوَعِيدِ وَرَجَاءِ الْمَوْعُودِ مَا صَارَ بِهِ مُشَمِّرًا عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، بَاذِلًا غَايَةَ الطَّاقَةِ فِي الْمُوَافَقَاتِ، هَارِبًا بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ، وَبَيْنَ مَنْ أَخَذَ فِي تَحْسِينِ الْإِيرَادِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَآخِذِ الْعِبَارَةِ وَمَدَارِجِهَا، وَلِمَ اخْتَلَفَتْ مَعَ مُرَادِفَتِهَا مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَتَفْرِيعُ التَّجْنِيسِ وَمَحَاسِنُ الْأَلْفَاظِ، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فِي الْخِطَابِ بِمَعْزِلٍ عَنِ النَّظَرِ فِيهِ‏؟‏‏.‏

كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِطَابِ لَيْسَ هُوَ التَّفَقُّهَ فِي الْعِبَارَةِ، بَلِ التَّفَقُّهُ فِي الْمُعَبَّرِ عَنْهُ وَمَا الْمُرَادُ بِهِ، هَذَا لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ‏.‏

وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ التَّمَكُّنَ فِي التَّفَقُّهِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّفَقُّهِ فِي الْمَعَانِي بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ إِنْكَارُ مَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ‏؟‏ وَلِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْوَسِيلَةِ وَالْقِيَامَ بِالْفَرْضِ الْوَاجِبِ فِيهَا دُونَ الِاشْتِغَالِ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ لَا يُنْكَرُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَمُّ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ بِجَمِيعِ أَصْنَافِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ مَا ذَكَرْتَهُ فِي السُّؤَالِ لَا يُنْكَرُ بِإِطْلَاقٍ، كَيْفَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ فَهِمْنَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ مِنْ كِتَابِهِ‏؟‏ وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ الْخُرُوجُ فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، الَّذِي يُشَكُّ فِي كَوْنِهِ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، أَوْ يَقْطَعُ بِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهَا قَصْدُ مِثْلِهِ فِي كَلَامِهَا وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَمَا يُؤَمِّنُنَا مِنْ سُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَة‏:‏ مِنْ أَيْنَ فَهِمْتُمْ عَنِّي أَنِّي قَصَدْتُ التَّجْنِيسَ الْفُلَانِيَّ بِمَا أَنْزَلْتُ مِنْ قَوْلِي‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 104‏]‏ أَوْ قَوْلِي‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 168‏]‏ فَإِنَّ فِي دَعْوَى مِثْلِ هَذَا عَلَى الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ خَطَرًا، بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 15‏]‏ وَإِلَى أَنَّهُ قَوْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 6‏]‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 75‏]‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، مَفْهُومٌ مِنْ مَسَاقِ الْكَلَامِ، مَعْلُومٌ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ ضَرُورَةً، وَالتَّجْنِيسُ وَنَحْوُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا خِدْمَةُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَعَدَمُهُ؛ إِذْ لَيْسَ فِي التَّجْنِيسِ ذَلِكَ، وَالشَّاهِدُ عَلَى ذَلِكَ نُدُورُهُ مِنَ الْعَرَبِ الْأَجْلَافِ الْبَوَّالِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمَنْ كَانَ نَحْوَهُمْ، وَشُهْرَةُ الْكِنَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا تَكَادُ تَجِدُ مَا هُوَ نَحْوَ التَّجْنِيسِ إِلَّا فِي كَلَامِ الْمُوَلِّدِينَ وَمَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ؛ فَالْحَاصِلُ أَنَّ لِكُلِّ عِلْمٍ عَدْلًا وَطَرَفًا إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ، وَالطَّرَفَانِ هُمَا الْمَذْمُومَانِ، وَالْوَسَطُ هُوَ الْمَحْمُودُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏مَعْرِفَةُ الضَّابِطِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ فِي مَأْخَذِ الْفَهْمِ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالتَّوَسُّطِ‏]‏

مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ أَنَّ الْعَدْلَ فِي الْوَسَطِ؛ فَمَأْخَذُ الْوَسَطِ رُبَّمَا كَانَ مَجْهُولًا، وَالْإِحَالَةُ عَلَى مَجْهُولٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي مَأْخَذِ الْفَهْمِ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ أَنَّ الْمُسَاقَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ وَالنَّوَازِلِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ؛ فَالَّذِي يَكُونُ عَلَى بَالٍ مِنَ الْمُسْتَمِعِ وَالْمُتَفَهِّمِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ، بِحَسَبِ الْقَضِيَّةِ وَمَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ فِيهَا، لَا يَنْظُرُ فِي أَوَّلِهَا دُونَ آخِرِهَا، وَلَا فِي آخِرِهَا دُونَ أَوَّلِهَا، فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى جُمَلٍ؛ فَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْبَعْضِ لِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ نَازِلَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا مَحِيصَ لِلْمُتَفَهِّمِ عَنْ رَدِّ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَأَوَّلِهِ عَلَى آخِرِهِ، وَإِذْ ذَاكَ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِي فَهْمِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنْ فَرَّقَ النَّظَرَ فِي أَجْزَائِهِ؛ فَلَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مُرَادِهِ، فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِصَارُ فِي النَّظَرِ عَلَى بَعْضِ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ دُونَ بَعْضٍ، إِلَّا فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي فَهْمِ الظَّاهِرِ بِحَسَبِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَمَا يَقْتَضِيهِ، لَا بِحَسَبِ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا صَحَّ لَهُ الظَّاهِرُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ؛ رَجَعَ إِلَى نَفْسِ الْكَلَامِ، فَعَمَّا قَرِيبٍ يَبْدُو لَهُ مِنْهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ؛ فَعَلَيْهِ بِالتَّعَبُّدِ بِهِ، وَقَدْ يُعِينُهُ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ النَّظَرُ فِي أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ؛ فَإِنَّهَا تُبَيِّنُ كَثِيرًا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَخْتَلِفُ مَغْزَاهَا عَلَى النَّاظِرِ‏.‏

غَيْرَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَنْظُورَ فِيهِ تَارَةً يَكُونُ وَاحِدًا بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ، وَتَارَةً يَكُونُ مُتَعَدِّدًا فِي الِاعْتِبَارِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ؛ كَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَأَشْبَاهِهَا وَلَا عَلَيْنَا أَنَزَلَتِ السُّورَةُ بِكَمَالِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَمْ نَزَلَتْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَلَكِنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَهُ اعْتِبَارَان‏:‏ اعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ تَعَدُّدِ الْقَضَايَا؛ فَتَكُونُ كُلُّ قَضِيَّةٍ مُخْتَصَّةً بِنَظَرِهَا، وَمِنْ هُنَالِكَ يُلْتَمَسُ الْفِقْهُ عَلَى وَجْهٍ ظَاهِرٍ لَا كَلَامَ فِيهِ، وَيَشْتَرِكُ مَعَ هَذَا الِاعْتِبَارِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْتِمَاسِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ‏.‏

وَاعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ النَّظْمِ الَّذِي وَجَدْنَا عَلَيْهِ السُّورَةَ؛ إِذْ هُوَ تَرْتِيبٌ بِالْوَحْيِ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِآرَاءِ الرِّجَالِ، وَيَشْتَرِكُ مَعَهُ أَيْضًا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ نَظْمٌ أُلْقِيَ بِالْوَحْيِ، وَكِلَاهُمَا لَا يُلْتَمَسُ مِنْهُ فِقْهٌ عَلَى وَجْهٍ ظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا يُلْتَمَسُ مِنْهُ ظُهُورُ بَعْضِ أَوْجُهِ الْإِعْجَازِ، وَبَعْضِ مَسَائِلَ نُبِّهَ عَلَيْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ قَبْلُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ بِحَسَبِ تِلْكَ الِاعْتِبَارَاتِ؛ فَاعْتِبَارُ جِهَةِ النَّظْمِ مَثَلًا فِي السُّورَةِ لَا يَتِمُّ بِهِ فَائِدَةٌ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِهَا بِالنَّظَرِ؛ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا فِيهِ غَيْرُ مُفِيدٍ غَايَةَ الْمَقْصُودِ، كَمَا أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ الْآيَةِ فِي اسْتِفَادَةِ حُكْمٍ مَا لَا يُفِيدُ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ النَّظَرِ فِي جَمِيعِهَا‏.‏

فَسُورَةُ الْبَقَرَةِ مَثَلًا كَلَامٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ النَّظْمِ، وَاحْتَوَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ بِحَسَبِ مَا بُثَّ فِيهَا، مِنْهَا مَا هُوَ كَالْمُقَدِّمَاتِ وَالتَّمْهِيدَاتِ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَالْمُؤَكِّدِ وَالْمُتَمِّمِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْإِنْزَالِ وَذَلِكَ تَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ عَلَى تَفَاصِيلِ الْأَبْوَابِ، وَمِنْهَا الْخَوَاتِمُ الْعَائِدَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالتَّأْكِيدِ وَالتَّثْبِيتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْثِيلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ؛ فَبِهِ يُبَيَّنُ مَا تَقَدَّمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 183- 187‏]‏ كَلَامٌ وَاحِدٌ وَإِنْ نَزَلَ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى، وَحَاصِلُهُ بَيَانُ الصِّيَامِ وَأَحْكَامِهِ، وَكَيْفِيَّةِ آدَائِهِ، وَقَضَائِهِ، وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْجَلَائِلِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا يَنْبَنِي إِلَّا عَلَيْهَا‏.‏

ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 188‏]‏ كَلَامًا آخَرَ بَيَّنَ أَحْكَامًا أُخَرَ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 189‏]‏ وَانْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ، وَعِنْدَ أُخْرَى أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 189‏]‏ مِنْ تَمَامِ مَسْأَلَةِ الْأَهِلَّةِ، وَإِنِ انْجَرَّ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا انْجَرَّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا تَذْكِيرٌ وَتَقْدِيمٌ لِأَحْكَامِ الْحَجِّ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 189‏]‏ وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏ ‏[‏الْكَوْثَر‏:‏ 1‏]‏ نَازِلَةٌ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَسُورَةُ اقْرَأْ نَازِلَةٌ فِي قَضِيَّتَيْنِ الْأُولَى إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏الْعَلَق‏:‏ 5‏]‏ وَالْأُخْرَى مَا بَقِيَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ‏.‏

وَسُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ نَازِلَةٌ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَكِّيَّاتِ، وَغَالِبُ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، أَصْلُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ تَقْرِيرُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْحَقِّ، غَيْرَ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ؛ كَنَفْيِ الشَّرِيكِ بِإِطْلَاقٍ، أَوْ نَفْيِهِ بِقَيْدِ مَا ادَّعَاهُ الْكُفَّارُ فِي وَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْ كَوْنِهِ مُقَرَّبًا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، أَوْ كَوْنِهِ وَلَدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ تَقْرِيرُ النُّبُوَّةِ لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا، صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى وُجُوهٍ أَيْضًا؛ كَإِثْبَاتِ كَوْنِهِ رَسُولًا حَقًّا، وَنَفْيِ مَا ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ كَاذِبٌ، أَوْ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ إِثْبَاتُ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِكُلِّ وَجْهٍ يُمْكِنُ الْكَافِرُ إِنْكَارَهُ بِهِ؛ فَرَدَّ بِكُلِّ وَجْهٍ يُلْزِمُ الْحُجَّةَ، وَيُبَكِّتُ الْخَصْمَ، وَيُوَضِّحُ الْأَمْرَ‏.‏

فَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْمُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ، وَمَا ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ خُرُوجُهُ عَنْهَا؛ فَرَاجِعٌ إِلَيْهَا فِي مَحْصُولِ الْأَمْرِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، وَالْأَمْثَالُ وَالْقَصَصُ، وَذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَوَصْفُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ‏.‏

فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُدْنَا إِلَى النَّظَرِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ مَثَلًا وَجَدْنَا فِيهَا الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ عَلَى أَوْضَحِ الْوُجُوهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى نَسَقِهَا ذِكْرُ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلنُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَدْخَلُ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ بِوَصْفِ الْبَشَرِيَّةِ تَرَفُّعًا مِنْهُمْ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ، أَوْ يَنَالَ هَذِهِ الرُّتْبَةَ غَيْرُهُمْ إِنْ كَانَتْ؛ فَجَاءَتِ السُّورَةُ تُبَيِّنُ وَصْفَ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْهَا، وَبِأَيِّ وَجْهٍ تَكُونُ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا حَتَّى تَسْتَحِقَّ الِاصْطِفَاءَ وَالِاجْتِبَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَافْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِثَلَاثِ جُمَلٍ‏:‏ إِحْدَاهَا وَهِيَ الْآكَدُ فِي الْمَقَامِ بَيَانُ الْأَوْصَافِ الْمُكْتَسَبَةِ لِلْعَبْدِ الَّتِي إِذَا اتَّصَفَ بِهَا رَفَعَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 1- 11‏]‏ وَالثَّانِيَةُ‏:‏ بَيَانُ أَصْلِ التَّكْوِينِ لِلْإِنْسَانِ وَتَطْوِيرِهِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ جَارِيًا عَلَى مَجَارِي الِاعْتِبَارِ وَالِاخْتِيَارِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ الطَّاعِنُ إِلَى الطَّعْنِ عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ سَبِيلًا‏.‏

وَالثَّالِثَةُ‏:‏ بَيَانُ وُجُوهِ الْإِمْدَادِ لَهُ مِنْ خَارِجٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فِي التَّرْبِيَةِ وَالرِّفْقِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى إِقَامَةِ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَهُ بِتَسْخِيرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَكَفَى بِهَذَا تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا‏.‏

ثُمَّ ذَكَرَتْ قَصَصَ مَنْ تَقَدَّمَ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ وَاسْتِهْزَائَهُمْ بِهِمْ بِأُمُورٍ مِنْهَا كَوْنُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ؛ فَفِي قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 24‏]‏ ثُمَّ أَجْمَلَ ذِكْرَ قَوْمٍ آخَرِينَ أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ؛ أَيْ‏:‏ مِنَ الْبَشَرِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 34‏]‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 38‏]‏ أَيْ‏:‏ هُوَ مِنَ الْبَشَرِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 44‏]‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ رَسُولُهَا مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَسُولُهَا الَّذِي تَعْرِفُهُ مِنْهَا ثُمَّ ذَكَرَ مُوسَى وَهَارُونَ وَرَدَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِقَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 47‏]‏ إِلَخْ هَذَا كُلُّهُ حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ غَضُّوا مِنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ بِوَصْفِ الْبَشَرِيَّةِ، تَسْلِيَةً لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ الْبَشَرِيَّةِ لِلْأَنْبِيَاءِ لَا غَضَّ فِيهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ إِنَّمَا كَانُوا مِنَ الْبَشَرِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ كَجَمِيعِ النَّاسِ، وَالِاخْتِصَاصُ أَمْرٌ آخَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَقَالَ بَعْدَ تَقْرِيرِ رِسَالَةِ مُوسَى‏:‏ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 50‏]‏ وَكَانَا مَعَ ذَلِكَ يَأْكُلَانِ وَيَشْرَبَانِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 51‏]‏ أَيْ‏:‏ هَذَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ شُكْرُ تِلْكَ النِّعَمِ، وَمُشَرِّفٌ لِلْعَامِلِ بِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يُوجِبُ التَّخْصِيصَ لَا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 52‏]‏ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَاثُلِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا مُصْطَفَوْنَ مِنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوٍ مِمَّا بِهِ بَدَأَ؛ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 57- 61‏]‏ وَإِذَا تُؤُمِّلُ هَذَا النَّمَطُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا؛ فُهِمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ مُضَافًا إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ وَغَضُّوا مِنَ الرُّسُلِ بِوَصْفِ الْبَشَرِيَّةِ؛ اسْتِكْبَارًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَعُتُوًّا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ تُشْعِرُ بِخِلَافِ الِاسْتِكْبَارِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ بِتِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْقُولٌ فِي أَطْوَارِ الْعَدَمِ وَغَايَةِ الضَّعْفِ؛ فَإِنَّ التَّارَاتِ السَّبْعَ أَتَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ كُلُّهَا ضَعْفٌ إِلَى ضِعْفٍ، وَأَصْلُهُ الْعَدَمُ؛ فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ الِاسْتِكْبَارُ، وَالْجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ مُشْعِرَةٌ بِالِاحْتِيَاجِ إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَلَوْلَا خَلْقُهَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ بَقَاءٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ؛ فَلَا يَلِيقُ بِالْفَقِيرِ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي النَّشْأَةِ وَالْخَلْقِ، فَهَذَا كُلُّهُ كَالتَّنْكِيتِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

ثُمَّ ذَكَرَ الْقَصَصَ فِي قَوْمِ نُوحٍ‏:‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 24‏]‏ وَالْمَلَأُ هُمُ الْأَشْرَافُ‏.‏

وَكَذَلِكَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 33‏]‏ وَفِي قِصَّةِ مُوسَى ‏{‏أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 47‏]‏ وَمِثْلُ هَذَا الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لِشَرَفِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ قَالُوا هَذَا الْكَلَامَ، ثُمَّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ لَا يَشْعُرُونَ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 54- 56‏]‏ رُجُوعٌ إِلَى وَصْفِ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَشَرَّفُوا بِالْمَالِ وَالْبَنِينَ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ لَهُ الشَّرَفُ مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 57‏]‏ ثُمَّ رَجَعَتِ الْآيَاتُ إِلَى وَصْفِهِمْ فِي تَرَفِهِمْ وَحَالِ مَآلِهِمْ، وَذِكْرِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، وَالْبَرَاهِينِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ مَا قَالَ عَنِ اللَّهِ حَقٌّ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَأُمُورِ الدَّارِ الْآخِرَةِ لِلْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ، حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ وَالْوَصْفُ لِلْفَرِيقَيْنِ؛ فَهَذَا النَّظَرُ إِذَا اعْتُبِرَ كُلِّيًّا فِي السُّورَةِ وُجِدَ عَلَى أَتَمَّ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ، لَكِنْ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَطَرِيقِهِ، وَمَنْ أَرَادَ الِاعْتِبَارَ فِي سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ؛ فَالْبَابُ مَفْتُوحٌ، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ؛ فَسُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَحَيْثُ ذَكَرَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ كَنُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، وَمُوسَى، وَهَارُونَ؛ فَإِنَّمَا ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَثْبِيتٌ لِفُؤَادِهِ لِمَا كَانَ يَلْقَى مِنْ عِنَادِ الْكُفَّارِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَتُذْكَرُ الْقِصَّةُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَقَعُ لَهُ مِثْلُهُ، وَبِذَلِكَ اخْتَلَفَ مَسَاقُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْجَمِيعُ حَقٌّ وَاقِعٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَعَلَى حَذْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ يَحْتَذِي فِي النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ لِمَنْ أَرَادَ فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَآخِذُ الْقُرْآنِ فِي النَّظَرِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ سُوَرِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ‏]‏

وَهَلْ لِلْقُرْآنِ مَأْخَذٌ فِي النَّظَرِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ سُوَرِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ بِحَسَبِ خِطَابِ الْعِبَادِ، لَا بِحَسَبِهِ فِي نَفْسِهِ‏؟‏ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ بِوَجْهٍ وَلَا بِاعْتِبَارٍ، حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا مَوْرِدُ الْبَحْثِ هُنَا بِاعْتِبَارِ خِطَابِ الْعِبَادِ تَنَزُّلًا لِمَا هُوَ مِنْ مَعْهُودِهِمْ فِيهِ، هَذَا مَحَلُّ احْتِمَالٍ وَتَفْصِيلٍ فَيَصِحُّ فِي الِاعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ، أَيْ يَتَوَقَّفُ فَهْمُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ بِوَجْهٍ مَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُبَيِّنَ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا بِتَفْسِيرِ مَوْضِعٍ آخَرَ أَوْ سُورَةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرُورِيَّاتِ مَثَلًا مُقَيَّدٌ بِالْحَاجِيَّاتِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَبَعْضُهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْفَهْمِ؛ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَكَلَامٌ وَاحِدٌ؛ فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ‏.‏

وَيَصِحُّ أَنْ لَا يَكُونَ كَلَامًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَظْهَرُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ سُوَرًا مَفْصُولًا بَيْنَهَا مَعْنًى وَابْتِدَاءً؛ فَقَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ انْقِضَاءَ السُّورَةِ وَابْتِدَاءَ الْأُخْرَى بِنُزُولِ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهَكَذَا نُزُولُ أَكْثَرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى وَقَائِعَ وَأَسْبَابٍ يُعْلَمُ مِنْ إِفْرَادِهَا بِالنُّزُولِ اسْتِقْلَالُ مَعْنَاهَا لِلْأَفْهَامِ، وَذَلِكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْقُرْآنُ ذَمَّ إِعْمَالَ الرَّأْيِ‏]‏

إِعْمَالُ الرَّأْيِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ ذَمُّهُ، وَجَاءَ أَيْضًا مَا يَقْتَضِي إِعْمَالَهُ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنِ الصِّدِّيقِ؛ فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ سُئِلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآن‏:‏ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِنْ أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ‏؟‏ وَرُبَّمَا رُوِيَ فِيه‏:‏ إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ؛ فَقَالَ‏:‏ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا؛ فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً؛ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، الْكَلَالَةُ كَذَا وَكَذَا‏.‏

فَهَذَانِ قَوْلَانِ اقْتَضَيَا إِعْمَالَ الرَّأْيِ وَتَرَكَهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَالْقَوْلُ فِيهِ أَنَّ الرَّأْيَ ضَرْبَان‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ جَارٍ عَلَى مُوَافَقَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِهْمَالُ مِثْلِهِ لِعَالِمٍ بِهِمَا لِأُمُورٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ إِنَّ الْكِتَابَ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِبَيَانِ مَعْنًى، وَاسْتِنْبَاطِ حُكْمٍ، وَتَفْسِيرِ لَفْظٍ، وَفَهْمِ مُرَادٍ، وَلَمْ يَأْتِ جَمِيعُ ذَلِكَ عَمَّنْ تَقَدَّمَ؛ فَإِمَّا أَنْ يُتَوَقَّفَ دُونَ ذَلِكَ فَتَتَعَطَّلُ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِمَا يَلِيقُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالتَّوْقِيفِ؛ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ نَظَرٌ وَلَا قَوْلٌ، وَالْمَعْلُومُ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بَلْ بَيَّنَ مِنْهُ مَا لَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِهِ إِلَّا بِهِ، وَتَرَكَ كَثِيرًا مِمَّا يُدْرِكُهُ أَرْبَابُ الِاجْتِهَادِ بِاجْتِهَادِهِمْ؛ فَلَمْ يَلْزَمْ فِي جَمِيعِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ التَّوْقِيفُ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا أَوْلَى بِهَذَا الِاحْتِيَاطِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ عَلَى مَا فَهِمُوا، وَمِنْ جِهَتِهِمْ بَلَغَنَا تَفْسِيرُ مَعْنَاهُ، وَالتَّوْقِيفُ يُنَافِي هَذَا؛ فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالتَّوْقِيفِ وَالْمَنْعِ مِنَ الرَّأْيِ لَا يَصِحُّ وَالرَّابِعُ‏:‏ أَنَّ هَذَا الْفَرْضَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جِهَتَيْن‏:‏ مِنْ جِهَةِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَقَدْ يُسَلَّمُ الْقَوْلُ بِالتَّوْقِيفِ فِيهِ وَتَرْكِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ جَدَلًا‏.‏

وَمِنْ جِهَةِ الْمَآخِذِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْقِيفُ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَاللَّازِمُ عَنْهُ مِثْلُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ إِطْنَابٍ فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا الرَّأْيُ غَيْرُ الْجَارِي عَلَى مُوَافَقَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوِ الْجَارِي عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَهَذَا هُوَ الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ كَمَا كَانَ مَذْمُومًا فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ تَقَوُّلٌ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ فَيَرْجِعُ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَفِي هَذَا الْقِسْمِ جَاءَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ فِي الْقُرْآنِ مَا جَاءَ؛ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ‏.‏

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب‏:‏ إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلَيْن‏:‏ رَجُلٌ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَرَجُلٌ يُنَافِسُ الْمُلْكَ عَلَى أَخِيهِ‏.‏

وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا‏:‏ مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْهَاهُ إِيمَانُهُ، وَلَا مِنْ فَاسِقٍ بَيٍّنٍ فِسْقُهُ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْهَا رَجُلًا قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى أَذْلَقَهُ بِلِسَانِهِ، ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ‏.‏

وَالَّذِي ذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِه‏:‏ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏[‏عَبَسَ‏:‏ 31‏]‏ فَقَالَ‏:‏ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي الْحَدِيثَ‏.‏

وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ‏{‏يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ ‏[‏الْمَعَارِج‏:‏ 4‏]‏ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَمَا يَوْمٌ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ‏[‏السَّجْدَة‏:‏ 5‏]‏‏؟‏ فَقَالَ الرَّجُلُ‏:‏ إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا، نَكْرَهُ أَنْ نَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا نَعْلَمُ‏.‏

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ قَالَ أَنَا لَا أَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ آيَةٍ؛ فَقَالَ‏:‏ لَا تَسْأَلُنِي عَنِ الْقُرْآنِ، وَسَلْ عَنْهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ يَعْنِي عِكْرِمَةَ وَكَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْعِرٌ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ سَأَلْتُ عُبَيْدَةَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ، وَعَلَيْكَ بِالسَّدَادِ؛ فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ فِيمَ أُنْزِلَ الْقُرْآنَ‏؟‏ وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ‏:‏ اتَّقُوا التَّفْسِيرَ؛ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ‏:‏ مَا سَمِعْتُ أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ

وَإِنَّمَا هَذَا كُلُّهُ تَوَقٍّ وَتَحَرُّزٌ أَنْ يَقَعَ النَّاظِرُ فِيهِ فِي الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَالْقَوْلِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَجَلَالَتُهُ فِي مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْلُومَةٌ أَنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْ قَطُّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَإِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُجِبْ، انْظُرِ الْحِكَايَةَ عَنْهُ فِي الْكَامِلِ لِلْمُبَرِّدِ‏.‏

فَصْلُ ‏[‏في فَوَائِدَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ‏]‏

فَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ أَشْيَاءُ‏:‏ مِنْهَا‏:‏ التَّحَفُّظُ مِنَ الْقَوْلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى بَيِّنَةٍ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ بِالْأَدَوَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي التَّفْسِيرِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ‏:‏ إِحْدَاهَا‏:‏ مَنْ بَلَغَ فِي ذَلِكَ مَبْلَغَ الرَّاسِخِينَ كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا مَعَ التَّوَقِّي وَالتَّحَفُّظِ، وَالْهَيْبَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْهُجُومِ؛ فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ إِنْ ظَنَنَّا بِأَنْفُسِنَا أَنَّا فِي الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مِثْلُهُمْ، وَهَيْهَاتَ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ مَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبَالِغَهُمْ وَلَا دَانَاهُمْ؛ فَهَذَا طَرَفٌ لَا إِشْكَالَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِ‏.‏

وَالثَّالِثَةُ‏:‏ مَنْ شَكَّ فِي بُلُوغِهِ مَبْلَغَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ عُلُومِهِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَهَذَا أَيْضًا دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ الْمَنْعِ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ، فَعِنْدَمَا يَبْقَى لَهُ شَكٌّ أَوْ تَرَدُّدٌ فِي الدُّخُولِ مَدْخَلَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ؛ فَانْسِحَابُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ بَاقٍ بِلَا إِشْكَالٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَقِيهُ نَفْسِهِ فِي هَذَا الْمَجَالِ، وَرُبَّمَا تَعَدَّى بَعْضُ أَصْحَابِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ طَوْرَهُ؛ فَحَسُنَ ظَنُّهُ بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ فِي الْكَلَامِ فِيهِ مَعَ الرَّاسِخِينَ، وَمِنْ هُنَا افْتَرَقَتِ الْفِرَقُ، وَتَبَايَنَتِ النِّحَلُ، وَظَهَرَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْخَلَلُ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ مَنْ تَرَكَ النَّظَرَ فِي الْقُرْآنِ، وَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَوَكَّلَ إِلَيْهِ النَّظَرَ فِيهِ غَيْرُ مَلُومٍ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ سَعَةٌ إِلَّا فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَعَلَى حُكْمِ الضَّرُورَةِ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهِ يُشْبِهُ النَّظَرَ فِي الْقِيَاسِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِهِ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَاهُمْ فِي الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ الْمَحْظُورَ فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ خَوْفُ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ، بَلِ الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَرْجِعُ إِلَى نَظَرِ النَّاظِرِ، وَالْقَوْلَ فِي الْقُرْآنِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ كَذَا، أَوْ عَنَى كَذَا بِكَلَامِهِ الْمُنَزَّلِ، وَهَذَا عَظِيمُ الْخَطَرِ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ النَّاظِرِ وَالْمُفَسِّرِ وَالْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ تَقْصِيدٌ مِنْهُ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ؛ فَهُوَ يَقُولُ بِلِسَانِ بَيَانِه‏:‏ هَذَا مُرَادُ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ؛ فَلْيَتَثَبَّتْ أَنْ يَسْأَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ مِنْ أَيْنَ قُلْتَ عَنِّي هَذَا‏؟‏ فَلَا يَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيَانِ الشَّوَاهِدِ، وَإِلَّا؛ فَمُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ يَكْفِي بِأَنْ يَقُولَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كَذَا وَكَذَا، بِنَاءً أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ فِي صُلْبِ الْعِلْمِ، وَإِلَّا؛ فَالِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قَوْلٍ يَجْزِمُ بِهِ أَوْ يُحَمِّلُ مِنْ شَاهِدٍ يَشْهَدُ لِأَصْلِهِ، وَإِلَّا كَانَ بَاطِلًا، وَدَخَلَ صَاحِبُهُ تَحْتَ أَهْلِ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏